الحساب – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب)
إن اليوم المذكور في الآية المباركة ليس يوما من أيامنا الدنيوية بل هو يوم من أيام الآخرة، وأنت ترى أن اليوم على الكواكب الأخرى يختلف عن اليوم على الكرة الأرضية، فهناك يوم أقصر من يومنا وهناك يوم أطول، ولعل يوم الحساب لا يحدث على أرضنا هذه.
المقصود باليوم هنا هو يوم القيامة، ولكن ما يجري في ذلك اليوم المفصلي هو ما تتحدث عنه الآية وهو محورها.
تتحدث الآية عن جزاء الأعمال، فالله سبحانه وتعالى يجازي الإنسان ويحاسبه على ما فعله وبمقدار ما فعل، وهذا يعني أن الإنسان له إرادة القيام بالعمل، فهو يفعل الخير ويفعل الشر، وبما أنه يعمل ويؤاخذ بعمله في يوم الحساب فإذن لا معنى لقول فئة من الناس أن الله خلق أفعال البشر، وأن الإنسان مسير لا مخير، وهو يفعل الخير والشر رغما عنه دون إرادة منه.
وأصحاب هذا الرأي الذين يدعون بالجبرية أو المجبرة يدعون أن الإنسان مجبور على أعماله وكل ما يفعله هو من الله، فكما أن بعض العضلات في الجسم لا إرادية كالقلب فإن أفعال الإنسان أيضا على نفس النحو.
ويشكل على هذا الرأي العديد من الإشكالات أهمها أن ذلك لا يجوز على الله، فكيف يخلق الله أفعال البشر ويجبرهم عليها ثم يأتي ليؤاخذهم بها ويحاسبهم عليها ويعاقبهم؟
تخيل أنك تقيد شخصا بالسلاسل والقيود بحيث لا يقوى على الحراك ثم ترميه في النار وتقول له احذر أن تحترق! فكيف أطلب منه ما لا يقوى عليه، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يجوز على الله أن يتصف بالظلم، والظلم قبيح والله لا يفعل القبيح.
وإن محاولة الإجابة عن ذلك بأن الله لا يسأل عما يفعل تبقى محاولة يائسة لا محل لها ولا تقوى على رد هذا الإشكال الكبير، فصحيح أن الله لا يسأل عما يفعل لكنه من جهة أخرى لا يفعل القبيح الذي يوصف به بناء على هذه النظرية.
ولو تتبعت أصول هذه النظرية وجذورها لاهتديت إلى قصور الحكام والملوك الظلمة والطغاة الذين حكموا باسم الإسلام بعد فترة صدر الإسلام، فقد قام هؤلاء الفاسدون بتزوير جملة من الأحاديث ووضعها ودسها لتبرير فسقهم وفجورهم المعلن الذي لا يخفى على أحد، فهؤلاء الذين كانوا يحكموا باسم الإسلام ويسمون أنفسهم خلفاء المسلمين وأمراء للمؤمنين لا يمكنهم أن يدفعوا عن أنفسهم التهمة والتشكيك دون وضع مثل تلك الأقاويل الفاسدة جملة وتفصيلا ولا ترقى إلى وضعها للنقاش بسبب سطحيتها وضحالة مستواها.
ويستفاد من الآية معنى آخر وهو أن الإنسان يحاسب على ما فعله هو ولا يحاسب على ما فعله غيره كائنا من كان، وإن كان من عشيرته وقبيلته وعائلته، فالله تعالى يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، ولكننا نشهد إلى يومنا هذا تعدي هذا القانون الإلهي العظيم، ولا زالت قيم الجاهلية والعشائرية موجودة إلى اليوم حيث يعاقبون من لا ذنب له إلا لأنه من عائلة فلان أو عشيرة فلان، وكل ذلك من الظلم ولا علاقة للدين الإسلامي الحنيف به.
كما أن العقاب أيضا على قدر الجريمة المرتكبة، ولا يجوز المعاقبة بما يزيد عن الجريمة، فمثلا لو قتل شخص شخصا آخر عمدا وثبت عليه الجرم يقتص منه بقتله، ولا يجوز لأهل المقتول أن يطالبوا بأزيد من القتل كالمثلة أو قتل أكثر من شخص وما إلى ذلك، فالقاتل يقتل وحده وليس أحدا غيره، أما ما شاع في الجاهلية وما بعدها من الانتقام بقتل جماعة أو قتل من ليس له علاقة بالقتل فهو ليس من الإسلام في شيء.
إن النظم الاقتصادية في العالم اليوم إما ماركسية أو رأسمالية، وكلاهما فشل في تحقيق العدالة بين الناس، فأحدهما يقول لكل من كل أحد حسب طاقته ولكل أحد حسب عمله، والآخر يقول بنظرية الكفاف فلا يعطي الأجير أو العامل إلا ما يكفيه بحيث لا يقتصر عليه ولا يفكر بأمور أخرى قد تجعله يشكل خطرا على الدولة ونظامها.
أما الإسلام فقد جاء بنظرية اقتصادية مغايرة تماما لكل تلك النظريات، واعتبر الأخلاق هي المفصل وهي المعيار في كل شيء، فلم يجز كسب المال بأي وسيلة مهما كانت لا أخلاقية كما تفعل النظم الاقتصادية الأخرى.
كما يؤكد الإسلام على إعطاء الأجير حقه قبل أن يجف عرقه وعدم بخسه حقه وتوعد من يفعل ذلك، وتحدد الأجر الممنوح للعامل لجنة من السوق من أهل الخبرة فيقدرون ما يستحقه العامل ويعطونه ما يكفيه ويسد حاجته وزيادة.
إن الحساب الإلهي ليس كحساب بعضنا بعضا، فعند الحساب يوم القيامة لا أحد يبخس حقه وكل يأخذ حقه تماما كما يستحق ولا يتعرض أحد للظلم كما تصرح الآية.