النبي والنبوة – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم)
هذه الآية هي عبارة عن دعاء النبي إبراهيم عليه السلام ربه ليبعث في الأرض التي نزل بها وهي أرض مكة نبيا من أهل تلك الأرض وفيه تلك المواصفات المذكورة في الآية.
وإن اختيار النداء بكلمة ربنا سوى غيرها ككلمة إلهنا ينسجم مع جو الآية التربوية الذي يتحدث عن تربية النبي لقومه وتعليمهم أسس دين الله.
وإن كل أمة من الأمم تتشرف بالنبي الذي يبعث فيها، وكل قبيلة يختار منها ذلك النبي لهو مدعاة للشرف والاعتزاز والفخر لها، وقد كان العرب قديما في الجاهلية يفتخرون إذا خرج منهم شاعر معروف، فما بالك بنبي يهدي الأمم؟
وإن الله لم يترك قوما دون نذير أو بشير، فقد أرسل الله الأنبياء إلى كل بقعة من بقاع المعمورة لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكل الأمم انتفعت بنبيها ورسولها الذي بعث فيها، ولكن هناك أمم لم تنتفع بالنبوة والأنبياء الذين أرسلوا إليهم وبعثوا فيهم، ومن أبرز هذه الأمم اليهود، فهؤلاء القوم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا من أنبياء الله الذي أرسلوا فيهم.
ولذلك تجدهم مبعث الشرور في العالم إلى يومك هذا، فتراهم يحتلون ويقتلون ويعيثون في الأرض فسادا وينشرون والظلم والطغيان في كل مكان، رغم أن منهم -والحق يقال- الكثير من العلماء والفلاسفة الذين غيروا وجه العالم على مر التاريخ، وقد نفعوا البشرية بعلوم كثيرة لا نتصور حياتنا بدونها اليوم، من علم الذرة إلى الطاقة النووية إلى علم الاجتماع وغيرها من العلوم.
هناك علماء كبار نبغوا من ملة اليهود، لكن علومهم هذه متعلقة غالبة بالأبدان والأجسام وتناسوا الروح البشرية والأخلاق، فتراهم طوروا الكثير من العلوم واخترعوا العديد من الاختراعات لكنهم في المقابل أدوا إلى إفناء عدد كبير من البشر بسبب عدم اتكائهم في علمهم على الأخلاق الإنسانية وحب الخير للناس، فدمرت مدينتان بمن فيهما نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب اختراعهم ودمرت العديد من الدول والشعوب بسببهم.
وعندما بعث نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله في قومه فإن ثلاثة احتمالات وضعت أمام قريش قبيلة النبي، فإما أن يكون نبيا كما يقول، وإما أن يكون حاكما وطالب سلطة وعنده طموح في الحكم والزعامة، أو أنه كذاب وليس كما يدعي والعياذ بالله.
وقد جعل ذلك قريشا ترتدع عن الوقوف بوجه النبي ومحاولة قتله، فكانت تريد أن تدع ذلك لباقي قبائل العرب، لكن أبا جهل هو من فرط العقد وجعلهم يراجعون حساباتهم ويقفون بقوة ضد النبي صلى الله عليه وآله، وقد قتل أبو جهل في معركة بدر شر قتلة.
ومن الأمور المهمة التي تشير إليها الآية بقوله تعالى (رسولا منهم) إضافة إلى الفخر والاعتزاز بكون النبي منهم هو أنه أدعى للاطمئنان وأدعى لأن يؤمنوا به ويصدقوه لأنه منهم ومن أبناء جلدتهم ويتحدث بلسانهم وهو ابن منطقتهم وبلدهم وثقافتهم.
وإن الله سبحانه يبعث كل نبي بلسان قومه الذي يبعثه فيهم، وهكذا كان نبينا الكريم صلى الله عليه وآله، وذلك يرجع إلى كونه أدعى وأقوم حجة، لأن من يتحدث لغة القوم ويحيا حياتهم ويعيش ثقافتهم يختلف عن آخر أتى من ثقافة أخرى مغايرة لما هي عليه ثقافة القوم الذين يبعث فيهم، فاللغة ليست مجرد ألفاظ وكلمات تحكى وتعلم بل هي ثقافة كاملة ولها روح خاصة، فلكل لغة خواصها ودقائقها.
مثلا لو أتيت إلى عبارة (يكتبون الكتاب بأيديهم) في إحدى آيات القرآن الكريم لفهمت أنت كقارئ عربي لغتك الأم هي العربية مغزى الحديث وما تريد أن تصل إليه هذه الكلمات، لكن شخصا من بيئة مختلفة ومغايرة مهما تبحر في علوم اللغة ودرسها دراسة مفصلة عميقة لن يستطيع فهمها كفهم ابن اللغة لها، ولذلك ترى بعضهم يشكل على هذه العبارة قول (بأيديهم) التي يعتبرها زائدة ولا معنى لها بحكم أن الكتابة تتم باليد بشكل بديهي ولا داعي لذكر ذلك، أما ابن اللغة وابن البيئة يعرف أن هذه اللفظة جاءت للتوكيد وإقامة الحجة وليست زائدة على الإطلاق.
وهناك أربع أنواع من الوجود: وجود خارجي يتمثل بالمخلوقات التي خلقها الله من البشر والحيوانات والنباتات والجمادات، ووجود ذهني يتمثل بالصور الذهنية التي ترتسم في الذهن ويتخيلها المرء بمجرد ذكرها فتنطبع الصورة في ذهنه، وهناك وجود كتبي هو الكلمات المكتوبة من اللغة، وهناك وجود لفظي يعني الكلمات المنطوقة في أي لغة.