تفسير تبارك الذي نزل الفرقان – د. الشيخ أحمد الوائلي
ما معنى تبارك الله؟ تبارك أي دام ونمت بركاته، فتبارك الله تعني أن ما عندنا ينفد وما عند الله باق.
إن لفظة (نزل) في هذه الآية لا تعني التنزيل من علو، فإن قلنا ذلك قلنا بتجسيم الله، وهناك بعض الفرق من المسلمين من يؤمن بالتجسيم ولا يعتبره مشكلة أو نقصا، ويستدل في ذلك من ظاهر القرآن ويأخذ بظاهر القرآن دون الأخذ بمعانيه الباطنية الحقيقية.
يجوز الأخذ بظاهر القرآن ما لم يتعارض مع العقل والقواعد العقلية الواضحة التي قد تصرف الظاهر إلى معنى آخر. وبذلك يكون معنى نزل أي منح القرآن لنبيه وأعطاه إياه وأرسله بالقرآن والهدى ودين الحق.
ما معنى الفرقان؟ إنما سمى الله كتابه الكريم بالفرقان لأنه يضع المقاييس بين الأمور، فهو يضع المقاييس العلمية للتفريق بين الأمور، فهو يفرق بين العلم والجهل، يفرق بين الإيمان والكفر، يفرق بين العلم والخرافة، يفرق بين الحق والباطل وما شاكل ذلك.
هناك في الدنيا مقاييس علمية عادلة، فالمجرم ليس كالمسالم الذي لم يرتكب جرما، المجرم مكانه السجن، أما الإنسان المسالم الوديع الذي لم يفعل ما يوجب خللا في المجتمع أو إفسادا فيه فهو حر الحركة والإرادة لا يحق لأحد التعرض له. والحقيقة أن هناك الكثيرين ممّن تختلط عليهم الأمور إلى درجة غريبة فلا يفرقون بين الصالح والطالح أو المجرم والمسلم، فهناك من يقارن الحجاج الظالم السفاح بعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد الوصيين، والقرآن الفرقان يقول أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون؟!
كما أن الفرقان جاء ليفرق بين الحقيقة والخرافة، فصحح الكثير من المعتقدات الجاهلية التي كانت سائدة سابقا، وقومها وجاء بالدليل العلمي على بطلانها، وجاء ببدائل واقعية علمية لها.
كان المسلمون في وقت من الأوقات يحكمون العالم بقوة العلم والعلوم التي كانوا روادا لها في العالم خلال القرون الأولى لانتشار الإسلام، فشكل المسلمون أقوى دولة في العالم آنذاك، وانحنت لهم أقوى الدول وأعتاها، وكل ذلك بفضل العلم الذي كانوا يمتلكونه. ولكنهم ابتعدوا عن العلم شيئا فشيئا إلى أن تراجعوا عن مكانتهم وانحدروا في واد سحيق لم يخرجوا منه إلى الآن.
وعندما أراد بعضهم العودة أراد استخراج كل نظريات العالم من القرآن ظنا منه بأنه يحسن صنعا، لكنه أحدث كوارث وفواجع بسبب ضحالة مستواه العلمي، فقام بتفسير آيات بحيث يحاول استخراج نظريات تواكب الحداثة ومصطلحات اليوم، وحاول بعضهم تفسير علم الفلك بحركات الصلاة، وما إلى ذلك من الخرافات التي لا يقبلها عقل وتضحك الثكلى، وهذا ما جعل عددا من المستشرقين الغربيين يأخذون صورة سلبية عن الإسلام ورموزه وينعتونه بأسوء النعوت ويسيئون لرموزه، فكان لزاما علينا أن لا نفسر القرآن دون علم وإدراك، وأن يأخذ هذا الدور المتخصص العالم بالأمور.
العبودية منزلة عالية لا ينالها أي مخلوق كان، فالعبادة الحقيقية عبادة عن وعي وبصيرة ومعرفة.
أما فيما يتعلق بالعالمين فهم الإنس والجن، لكن عالم الجن عالم آخر منفصل عن عالمنا ولا نعلم عنه إلا القليل، ولم يكلفنا الله بأن نتعرف عليه ونعرف ما فيه، ولن يسألنا الله يوم القيامة عنه شيئا، لذلك فمن الأفضل أن لا نضيع وقتنا في محاولة دخول هذا العالم والتعرف عليه لأنه لا يجلب إلا الويلات والخراب، ولنبتعد عن كل من يدعي تسخير الجن والتعامل معهم لحل قضايانا المتعسرة والعالقة.
هذا هو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل.