الخطاب التكويني القرآني – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)
حين يخاطب الله عباده، فإن خطابه لا يقتصر على الكلمات المنزّلة، بل يمتد إلى آياته التكوينية في هذا الوجود، فكما أن في القرآن خطابًا لفظيًا، فإن في الكون خطابًا عمليًا يُبصره المتفكر في ملكوت السماوات والأرض. والآية الكريمة (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) واحدة من تلك الآيات التي تنطق بالحكمة وتُعبّر عن جلال القدرة.
المعنى التكويني الظاهري:
البحران اللذان ورد ذكرهما هما البحر المالح والبحر العذب، فالماءان يلتقيان كما هو الحال في مصبات الأنهار حيث تصب الأنهار العذبة في البحار المالحة، لكن المدهش أن الله جعل بينهما برزخًا – حاجزًا غير مرئي – يمنع أحدهما من أن يطغى على الآخر. هذا التوازن العجيب في الطبيعة هو أحد أوجه النظام الإلهي الدقيق الذي يسير به الكون.
وقد ورد في العلم الحديث أن هناك حدودًا فيزيائية تفصل بين الكتل المائية المختلفة تُعرف بـ”الحد الفاصل بين الكتل المائية” (Halocline)، حيث تختلف كثافة الماء ودرجة ملوحته وحرارته، مما يمنع الامتزاج التام.
المعنى الرمزي والمعنوي:
إلى جانب المعنى الظاهري التكويني، وردت روايات تشرح الآية بمعنى رمزي، حيث فُسّر البحران في بعض التفاسير على أنهما شخصيتان نورانيتان – وهما أمير المؤمنين والسيدة فاطمة عليهما السلام – اللذان اجتمعا في بيت النبوة، وكان بينهما برزخ طاهر هو النور المحمدي الذي لا يعتدي أحد على طهره، فكانت ثمرة اتحادهما المبارك اللؤلؤ والمرجان، أي الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام، جوهرتا الرسالة وريحانتا النبي الأكرم.
البلاغة والرمزية القرآنية:
القرآن في بلاغته يجمع بين اللفظ والمجاز، وبين الحقيقة والمثال، كما قال عن “الأسد” في دلالة على الشجاعة، يصح أن يُطلق على الكرماء من العترة لقب البحر، فهم بحر في العلم، وبحر في الفضل، وبحر في العطاء. وإن كان البحر منبع اللؤلؤ، فهؤلاء هم منبع الهداية والنقاء في عالم الإمامة والرسالة.
اللؤلؤ والمرجان بين الطبيعة والنبوة:
اللؤلؤ والمرجان هما من أنفس الجواهر التي تخرج من أعماق البحار، فدلّ بذلك على أن نتاج ذلك الاتحاد الطاهر ليس كباقي الخلق، بل هم صفوة الله من خلقه. وما عناية النبي بهما إلا شاهد على مكانتهما في الدين، فقد روى التاريخ كيف كان يحملهما ويقبلهما ويضمهما إلى صدره، قائلاً: “اللهم إنّي أحبّهما فأحبّهما”، وفي موقف آخر: “نِعمَ الراكبان وأبوهما خير منهما”.
وفي الختام:
هذه الآيات ليست مجرد توصيف طبيعي لظاهرة مائية، بل درس عميق في التوازن، والنقاء، والاتحاد المبارك الذي يُنتج الخير والصفاء. وإن التبحّر في معانيها يجعلنا نزداد يقينًا بأن القرآن بحر لا ساحل له، كلما غصنا فيه وجدنا لؤلؤ الحكمة والمرجان الروحي في أعماقه، فلا يسع المؤمن إلا أن يسجد لله شكرًا على هذا البيان المبين.