الأغنياء والدعوات النبوية – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
عندما نتأمل في تاريخ الرسالات السماوية، نجد أن الدعوات النبوية غالبًا ما لاقت رفضًا أوليًّا من طبقة الأغنياء وأصحاب النفوذ، بينما كان الفقراء والمستضعفون هم أول من آمن بها واحتضنها. والسؤال هنا: لماذا هذا الانحياز المتكرر من الأغنياء ضد الأنبياء؟ وهل المال يُعمِي البصيرة ويمنع من إدراك الحق؟ وما هي الخلفيات النفسية والاجتماعية لهذا الموقف المتكرّر في كل عصر؟
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) سورة هود: 27
من هم “الملأ”؟ ولماذا رفضوا دعوات الأنبياء؟
لفظ “الملأ” ورد في القرآن الكريم للدلالة على النخبة المتسلطة في المجتمع، وهم الذين “امتلأوا” مالًا أو وجاهة أو نفوذًا. وقد كانوا على الدوام من أشد المعارضين للرسل والأنبياء، والسبب في ذلك يرجع إلى عدة عوامل متداخلة:
- الخوف من زوال النفوذ والمصالح
كثير من الأغنياء بنوا ثرواتهم على أساس الظلم أو الاستغلال، ولهذا فهم يرون في الدعوة الإلهية تهديدًا مباشرًا لمصالحهم، لأنها: تدعو إلى العدل وتقويض الاستغلال، تدعو إلى المساواة التي تزعزع امتيازاتهم، تحرّر الناس من التبعية والخوف
- الترف المانع من قبول التغيير
قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) الإسراء: 16
المترفون لا يحبون أن تتغير حياتهم ولا أن تهتز رفاهيتهم. هم يعتبرون الشريعة تهديدًا لنمط حياتهم الذي ألفوه، ولهذا يقاومونها بكل قوة.
- الاستعلاء الطبقي على أتباع الأنبياء
الأغنياء كثيرًا ما كانوا يحتقرون الفقراء والمساكين الذين يحيطون بالأنبياء، ولهذا قالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) هود: 27
وهذا يفضح العقلية الطبقية الاستكبارية التي تربط بين القيمة الإنسانية والمال، وتنسى أن الكرامة عند الله بالتقوى لا بالغنى.
الفقراء.. نُصرة الحق بلا تردد
على النقيض، تجد أن أكثر من تبنّى دعوة الأنبياء هم الفقراء والمستضعفون، والسبب في ذلك: أنهم لا يملكون شيئًا يخسرونه، فلا مصالح تمنعهم من الإيمان، وهم أكثر إحساسًا بالظلم، ولذلك يستبشرون بأي دعوة للعدل، وهم أقرب فطرةً إلى الله، لأن قلوبهم لم تتلوث بالجشع والترف والطغيان.
ولهذا، حين سُئل أبو سفيان من قبل هرقل ملك الروم عن النبي محمد (ص)، سأله: “أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟”، قال: “بل ضعفاؤهم”، قال هرقل: “هكذا أتباع الأنبياء.”
حُجج الملأ في رفض النبوة: تكرار عبر التاريخ
القرآن الكريم سجّل لنا أنماطًا متكررة من التبريرات السخيفة التي كان الملأ يطلقونها لتبرير رفضهم للأنبياء، ومن أبرزها ما ورد في هذه الآية: (ما نراك إلا بشرًا مثلنا)
وكأن الرسالة لا تقبل إلا من كائن خارق! يتوهمون أن النبي يجب أن يكون ملاكًا لا يأكل ولا يشرب ولا يتعب، ولهذا أنكروا نبوة من يشاركهم صفاتهم الإنسانية. وقد رد الله على هذا الوهم بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) الفرقان: 20
(وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)
احتقارٌ للفقراء والضعفاء، واستكبارٌ على الحق لأن من آمن به لا ينتمي لنخبة المال. لقد نسوا أن هؤلاء “الأراذل” عندهم هم أعظم الناس عند الله، وصدق رسول الله (ص): “ربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه.”
الأغنياء.. حين يكون المال حجابًا
المال ليس مذمومًا بحد ذاته، ولكنه قد يتحول إلى حاجز نفسي يحجب الإنسان عن الحق. وقد ذكر الله في القرآن أن المال يُعمِي الإنسان ويجعل قلبه قاسيًا: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) العلق: 6-7
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “ما ذئبان جائعان أُرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حبّ المال والشرف لدين المؤمن.”
الإسلام جاء ليهدم الطبقية
الإسلام من أول يوم رفع قيمة الإنسان لا على أساس ماله أو نسبه، بل على أساس عمله وتقواه، ولهذا كانت دعوته من أول يوم موجهة إلى: العبيد والمستضعفين، والنساء والأيتام، والفقراء والمساكين، ورفع شعار: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
ولهذا تجد أغلب الأتباع الأوائل للنبي محمد (ص): بلال، عمّار، صهيب، خباب، سمية، ياسر… فقراء مؤمنون، نُقش اسمهم في سجل الخلود.
النخبة المزيفة والتغافل عن الحقائق
أولئك الذين وصفوا أنفسهم بـ”الملأ” كانوا يرون أنهم أحق بالنبوة من الأنبياء، لا لأنهم أهل تقوى، بل لأنهم أهل مال! وهذا منطق مقلوب. وصدق من قال: “إذا كان المال معيارًا للكرامة، ففرعون أكرم من موسى، وقارون أكرم من نبي الله!”
وفي الختام:
إن معركة الأنبياء عبر العصور ليست فقط مع الكفر العقائدي، بل مع الكبر الطبقي والنفسي. الدعوات النبوية دائمًا ما تُقابل بالاستخفاف من الأغنياء، ويصفونها بأنها دعوة الفقراء والأراذل، بينما الحقيقة أن الكرامة في الإيمان لا في الرصيد البنكي.
مواضيع مشابهة
الأنجم الزاهرة – 21- معاناة النبي في الدعوة
دروس من سيرة النبي المصطفى (ص)