ليلة النصف من شعبان؛ الليلة المباركة – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ)
تزدحم المناسبات في هذه الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان، أولها هو أنها ليلة نزول القرآن الكريم، وهناك روايات دالة على ذلك.
ولكن المشهور عند المسلمين هو نزول القرآن الكريم في ليلة القدر لقوله تعالى بصريح العبارة (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، فكيف السبيل إلى الجمع بين الآية وتلك الروايات؟
بعضهم حاول الجمع بينهما فقال إن القرآن نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ واستنسخ إلى سماء الدنيا ثم بدأت الآيات تتنزل ابتداء من ليلة النصف من شعبان.
إن الإنسان في حياته يمر بمراحل وفترات مختلفة بداية من الطفولة ثم دخول المدرسة في المرحلة الابتدائية فالمتوسطة والثانوية ثم الكلية.
وكذلك فإن البشرية التي هي عبارة عن مجموعة أفراد تشكل كيانا اجتماعيا، ولهذا الكيان الاجتماعي عمر ثقافي وعمر زمني، والعمر الثقافي للبشرية يتطور بمرور الزمن.
لذلك كانت الرسالات التي سبقت الإسلام تناسب زمانها وجاء الإسلام لينسخ الشرائع السابقة بسبب التغير الثقافي للبشرية، لكن فرق الإسلام عن غيره هو أنه خاتم الأديان ولم ينسخ بدين من بعده.
والسبب في ذلك هو أن الرسالات السماوية السابقة مهدت الأرضية أمام البشرية لتقبل القرآن الكريم أولا، لأن الله أعد القرآن ليكون دستورا شاملا كاملا صالحا لجميع الأزمنة والعهود.
ولا شك أن العالم تطور خلال القرون المنصرمة بعد نزول القرآن، لكن القرآن والدين الإسلامي يحتوي على قواعد عامة تستطيع تغطية جميع شؤون البشرية مهما تطورت ومهما تغيرت.
فمثلا يقول تعالى في محكم كتابه الكريم (إن الله يأمر بالعدل) والعدل كما عرفه الفقهاء والعلماء هو وضع الشيء موضعه، ومن ذلك تقسيم الأراضي بين الناس الذي قد يختلف من بلد لآخر، فالبلد الذي تتسع أراضيه ولا يوجد به كثافة سكانية عالية يحصل فيه الفرد على ما لا يحصل عليه نظيره في بلد تضيق أراضيه وتقطنه جماعة كبيرة من السكان.
وهكذا فإن قوانين القرآن وقواعده تتسع لجميع الأمور وتستطيع تغطية جميع شؤون الحياة العصرية اليوم وحتى يوم القيامة.
كما أن الإسلام يعودنا على النظام وتنظيم الوقت رغم أن المسلمين اليوم عرفوا بتضييعهم للوقت وعدم التنظيم فيه لكنهم لا يتبعون في ذلك دينهم، لأن الدين الإسلامي هو أكثر من يدعونا إلى تنظيم الوقت ويعطينا حلولا عملية لذلك، فالصلوات الخمس التي لها مواقيت محددة في اليوم هي نوع من تنظيم الوقت، فإنك تجد الإنسان المصلي غالبا ما ينظم وقته على مواقيت الصلاة، وتجده أكثر تنظيما ممن لا يلتزم بأداء الصلاة.
كما أن الصيام صورة أخرى من صور تنظيم الوقت، فالصائم يفطر في وقت معين، ويقوم بتنظيم أوقات وجباته وترتيبها، وهكذا غيره من شعائر الدين التي تعودنا على النظام والتنظيم.
إن بركة هذه الليلة نابعة من نزول القرآن الكريم، فأي بركة أعظم من زاد العقل والروح الذي يكفينا أبد الدهر ولا نحتاج إلى غيره ما حيينا، فالمرء يعتبر ادخار مؤونة سنته من الحبوب والحنطة والشعير وغيرها بركة، فما بالك بخير الزاد وأعظم المؤونة؟
وتعرف ليلة النصف من شعبان أيضا بليلة الرغائب، لأنه فيها يرغب إلى الله ويسأل المؤمنون حاجاتهم ويأتون إليه بطلباتهم، ومهما طلبوا منه فإنه لا يدفعهم عن بابه ولا يمل من سؤالهم إياه، ونحن نعلم أنك لو طرقت باب أحدهم سائلا إياه مرة وأعدتها ثانية وثالثة ورابعة لمل منك وسئم حضورك، لكن الله تعالى يحب إلحاح العبد عليه، وكلما ألححت عليه بالطلب ألح عليك بالعطاء، وهو الذي لا يبرمه إلحاح الملحين.
وليلة النصف من شعبان هي ليلة الانقطاع إلى الله، وفيها يسجل وفد الحاج، أي يكتب اسم كل من كتب الله له التوفيق بالذهاب إلى مكة المكرمة.
كما تسجل في ليلة النصف من شعبان المنايا، ففي هذه الليلة المباركة يقدر الله الأعمار ويقسمها بين الخلائق، والأعمار بيد الله كما هو معروف، ولكن هناك من الأعمال التي إن أتى بها المؤمن قد تنسئ في أجله أي تطيل في عمره، ومنها صلة الرحم وبر الوالدين وغيرهما.
وعلى المؤمن أن يدعو الله في ليلة النصف من شعبان بهذا الدعاء: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي وأمتني ما دام الموت خيرا لي، فهناك من الناس العيش خير له من الموت، ومنهم من الموت خير له من الحياة، وكل ذلك بيد الله تعالى شأنه.
ومن أفضل أوقات الدعاء في هذه الليلة المباركة هو بعد منتصف الليل، ويستحب أن يدعو المرء فيها لنفسه ولأهله وللمؤمنين بخيري الدنيا والآخرة، ولكن لا يكن اعتماد المرء في حياته على الدعاء، بل لا بد له من العمل، فكما لا ينال الرزق بالدعاء وحده إن لم يكن مقروناً بالعمل كذلك لا تنال الجنة إلا بدعاء وعمل صالح.
ومن الأعمال المستحبة في تلك الليلة زيارة الإمام الحسين عليه السلام وإحياء الليلة عنده والدعاء تحت قبته، فعن الإمام الهادي عليه السلام أنه قال لأحد أصحابه: (وجهوا قوما إلى الحائر من مالي، فلما خرجنا من عنده، قال لي محمد بن حمزة: المشير يوجهنا إلى الحائر وهو بمنزلة من في الحائر، قال: فعدت إليه فأخبرته، فقال لي: ليس هو هكذا ان لله مواضع يحب ان يعبد فيها، وحائر الحسين (عليه السلام) من تلك المواضع).