الهجرة النفسية في الإسلام – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)
لقد سبقت عملية الهجرة التاريخية الحركية هجرة نفسية أعد لها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله كامل عدتها، ففي الوقت الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة كان قد قام بعملية الهجرة النفسية هذه.
إنها عملية تقوم على أساس إعداد الشرائح المسلمة لتقبل المضمون الإسلام حيث وجد، فهي حركة انتقال داخل النفس من دنيا الشرك إلى دنيا الإسلام، فسلحت النفس بالعقيدة، ولذلك تعتبر السنوات الثلاث عشرة التي قضاها الرسول صلى الله عليه وآله في مكة عملية إعداد نفسي، حيث بدأ صلى الله عليه وآله بتنظيف النفوس من الشرك ومن عادات الجاهلية، ومن ثم أهلها لتلقي الأدوار المقبلة.
ثم انتقل صلى الله عليه من مكانه الذي نزل فيه الوحي عليه في مكة إلى المدينة المنورة.
والهجرة النفسية أهم من الهجرة الحركية، لأن الانتقال من مكة إلى المدينة عمل بسيط، لكن الهجرة النفسية خلاف ذلك، وعلماء الاجتماع يبحثون عنها في مسألة التخلف الحضاري، أي أن الإنسان من السهل أن تكون له حضارة مادية ينتقل خلالها من طور إلى آخر، أما الحضارة الفكرية فليس من السهل عليه أن يتقبلها، فتحول الوقود إلى الغاز بدلا من الحطب، أو تحول وسائل النقل إلى السيارة بدلا من الحيوان أمر سهل، إذ إنه على وفق هوى الإنسان، أما تغيير العادة في البيت أو النفس فليس سهلا.
وعليه فالجانب الفكري ليس من السهل بمكان تغييره، سيما إذا كان متأصلا في النفس، وخصوصا إذا أخذ جانبا عقيديا، فإنه يصبح من الصعب معه تغيير الإنسان وتحويله عن عقيدته التي كان عليها إلى عقيدة أخرى.
فالنبي صلى الله عليه وآله عندما نظر إلى الأمر بفكره الثاقب رأى أن من الصعوبة أن يطوع أهل مكة للاستعداد لملء النفس بعقيدة تحل محل العقيدة الأولى التي هم عليها، فهؤلاء كانوا يعبدون 364 صنما على ظهر الكعبة، فمن العصوبة بمكان أن تنتزع منهم الإيمان بهذه الآلهة المجسدة في صورة أصنام وتقول لهم آمنوا برب واحد آخر لا يمكنكم أن تروه (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب).