نعيم الجنة – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر)
إن التقوى هي مسألة ترك، والتقوى هي من التروك، والتروك لا تستحق الثواب عليها في العنوان الأولي، فهل ترك قيادة السيارة مثلا يستحق الأجر؟ أو ترك عمل معين يستحق الأجر؟
عادة إن من يفعل شيئا ما أو يقوم بعمل ما يستحق الأجر عليه، أما من يترك القيام بعمل ما فكيف يستحق الأجر على ذلك؟
وهكذا من يترك عمل الحرام، من يترك شرب الخمر أو يتقي النظرة المحرمة أو الرذيلة والفجور، فهذه كلها تروك وليست عملا حتى يستحق صاحبها الأجر على ما يترك، فكيف يجزي الله المتقين على ترك عمل ما؟
في الحقيقة إن التقوى عمل منفي، فمثلا لو كنت في مكان مليء بالأموال والمال أمامك تستطيع أن تأخذ منه ما تشاء ولكنه محرم عليك ولا يجوز لك التصرف به، فأنت عندما تردع نفسك عن أن تمد يدك إلى ما حرم الله فأنت في الواقع تضبط نفسك وتكفها عن فعل الحرام.
وما تفعله هو عمل نفسي وهو أصعب من العمل الجسدي، فعلى سبيل المثال بإمكانك أن تضبط نفسك فلا تدخل في شجار بالأيدي مع شخص تخاصمه على أمر ما، ولكن هل تستطيع أن تضبط نفسك وقلبك من أن لا تحقد عليه أو تشعر بشعور سيئ تجاهه؟
إن ضبط النفس من أصعب الأمور ولا يقوى عليها إلا القلائل من المتقين، وهؤلاء هم المتقون الذين يستحقون تلك الجنان، وإن نعيم الجنة ينتظر هؤلاء المتقين كما وعد الله الذي لا يخلف وعده.
لماذا يقدم القرآن دائما الإشارة إلى النعيم المادي عند ذكره نعيم الجنة؟ لماذا لا يذكر النعيم المعنوي والروحي أولا؟
في الحقيقة إن النعيم المادي أقرب إلى القلب وإلى نفس الإنسان دائما من النعيم المعنوي والروحي غير المحسوس، فلو خيرت شخصا عمل عندك وأنجز عملا ما بين أن تعطيه حفنة من النقود أو أن تكيل له عبارات المدح والثناء وبأن تعبر عن تقديرك لجهوده وتكتفي بتكريمه، فأيهما سيختار؟
لا شك أن أغلب الناس يختار الخيار الأول وهو المادة ولن يختار التقدير المعنوي سوى قلة قليلة، فبعضهم لو خيرته بين كنوز الدنيا وما فيها على أن تهين كرامته لما قدم على كرامته شيئا، ولكنهم قلة قلائل في مجتمعنا البشري، وهكذا ذكر الله نعيم الجنة في القرآن.
وأما تأكيد الله سبحانه على النهر دائما عند ذكره نعيم الجنة فهو لخاصية الأنهار العجيبة في ترويحها عن النفس، فالنفس تروق دائما لمنظر الماء وخصوصا الماء الجاري، وهذه مسألة فطرية تولد مع الإنسان، فلو قمت بوضع طفل صغير لا يعي من الدنيا شيئا في الماء لبدأ بالعبث بالماء واللهو به دون أي تعليم أو تلقين، فحب الماء متأصل في النفس الإنسانية.
وهذه العلاقة القوية بين الإنسان والماء هي علاقة منطقية، فالماء هو مصدر الحياة والإنسان يعي ذلك تماما، فعندما يرى النهر أمامه يشعر بالحياة والنضرة ويعلم بأن المكان يعج بالحياة، فأينما وجد الماء وجدت الحياة، ولا يمكن للإنسان أو غيره من المخلوقات العيش دون ماء، ولذلك سلب الله ملكية الماء وجعله متاحا للجميع ولم يجز لأحد تملك الماء لئلا يحتكره ويمنع عباد الله منه فيميتهم عطشا.
وقد خلق الله كل شيء بحكمة، فلم يخلق الماء شحيحا بحيث تقع النزاعات والحروب عليه فيموت الناس عطشا، لأن الماء أساسي في الحياة، ولذلك فقد خلق الله الماء وجعله كثيرا لئلا يتنازع فيه فيختل التوازن، ويقول تعالى: إنا كل شيء خلقناه بقدر.
وقد وضعت في الفقه قواعد حول كيفية التصرف في الماء وما شابه، كما وضعت القوانين الوضعية لتقسيم المياه بين الدول وفض المنازعات بينهم، لكن هذه القوانين لا تطبق في كثير من الأحيان، ولا يزال الحكم للقوي يأخذ ما يشاء والضعيف لا حول له ولا قوة.
والله تعالى هو من مكننا من هذه النعم جميعا، فلو أراد لسلب منا هذه النعمة أو جعلها نادرة فمتنا عطشا، أو قد يسلب منا قدرة الانتفاع من الماء أو من الطعام فلا نستفيد من هذه النعم مع وجودها، فعلينا دوما أن نشكر الله على مننه علينا ونعمه التي إن نعدها لا نحصيها.
وأما الجنة فليست هذه الجنان التي نتحدث عنها في الدنيا، فالجنة مشتقة من الجنة بضم الجيم وليس فتحها، ومعناها الواقية والدرع التي تقيك المكاره، فمهما كان لديك من النعيم في الدنيا فهو لا يقيك المكاره ولا يدفع عنك البلاء، أما جنة الآخرة فهي خالية من العيوب وخالية من الآلام والبلاء، فيها نعيم مقيم، ولا مرض فيها ولا جوع ولا ألم ولا أذى، وهذا لا يمكن أن يحصل في هذه الدنيا التي ملؤها الآلام والأوجاع والأمراض.
ويستمر الله بذكر نعيم الجنة فيقول (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)، والمقعد يختلف عن المجلس في أنه يدل على طول الجلوس، وهو كناية عن طول مقام المؤمنين في نعيم الجنة.
وأما كلمة عند فهي ليس مكانية وإنما مجازية، ولو قلنا بأنها مكانية لأمكنا تجسيم الله، والله منزه عن الجسمية.
والله هو المليك المقتدر، وحده له الملك والأمر تبارك الله رب العالمين.