الشر وحقيقته – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق)
يتساءل بعضهم عما إذا كانت كلمة قل الموجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله من قبل الله عز وجل في كتابه الكريم وأمثالها هي جزء من القرآن الكريم وينبغي قراءتها واعتبارها جزءا من الآية أم لا.
وليس هذا التساؤل بجديد، فقد أجاب النبي صلى الله عليه وآله بنفسه عن هذا التساؤل حينما جاء أبي بن أبي سلول إلى النبي صلى الله عليه وآله ذات يوم يسأله ذات السؤال، فأجابه صلى الله عليه وآله بأن القرآن يقرأ كما أنزله الله بلا زيادة ولا نقيصة.
والواقع إنه لو فتح الباب لمثل هذا التلاعب بألفاظ القرآن لاختلط الحابل بالنابل ولحرف القرآن الكريم تحريفا عظيما، ولم يكن ليصلنا تاما سليما كما وصلنا الآن، وهذا ما هو عليه جمهور المفسرين والعلماء.
فينبغي الاحتراز عن المس بأي حرف من كتاب الله مهما كان، حتى وإن كان في بعض الأحيان يخالف قواعد اللغة العربية كآية (ومن أوفى بما عاهد عليه الله) حيث تقرأ كلمة (عليه) بخلاف قواعد اللغة العربية مضمومة الآخر، ولا مجال للاعتراض على ذلك بدعوى مخالفتها لقواعد العربية، فالقرآن وصلنا بالتواتر وهكذا قرأه جمهور الصحابة ومن سمع الرسول صلى الله عليه وآله.
وهناك روايات في كتب المذاهب الإسلامية الأخرى تنفي أن تكون المعوذتان جزءا من القرآن وتعتبرهما مجرد دعاء وذكر علمهما الله لنبيه صلى الله عليه وآله. وينسبون هذه الروايات إلى عبد الله بن مسعود تارة وإلى عبد الله بن عباس تارة أخرى.
والعجيب أن أتباع هذه المذاهب تراهم يشنعون على أتباع أهل البيت عليهم السلام ويتهمونهم بالاعتقاد بتحريف القرآن لوجود بعض الروايات الدالة على التحريف في كتبهم، والحال أن كتب القوم زاخرة بمئات الروايات التي تثبت التحريف لكن أيا من علمائهم البارزين لم يأخذ بها، وهكذا الحال عند أتباع أهل البيت عليهم السلام، لكن في قلوب بعض الناس مرض، وهناك من يهدف إلى التفريق بين أبناء الأمة الإسلامية وزعزعة صفوفها.
وغالبا ما يحمل العلماء الروايات الدالة على التحريف على التغيير في التفسير والمعنى دون اللفظ، وهذا ظاهر في ذكرهم لسبب نزول آية (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) التي من المعروف أنها نازلة في أمير المؤمنين عليه السلام ليلة المبيت، لكن سمرة بن جندب حرفها عن مسارها بعد أن تقاضى ما تقاضاه من أميره معاوية ونسب الآية إلى عبد الرحمن بن ملجم!
ومن تلك الأقاويل التي تفترى على أتباع أهل البيت عليهم السلام نبزهم بالرافضة، وادعاء أن هذه اللفظة مذكورة في حديث مروي عن النبي صلى الله عليه وآله، والحال أن هذه اللفظة لم تظهر إلا في زمن زيد الشهيد بن علي بن الحسين عليهم السلام، وهذا بحسب ادعاءاتهم هم، فكيف تنسب مثل تلك الرواية للنبي صلى الله عليه وآله؟!
وقال المفسرون في تفسير الفلق في الآية المباركة هو أن المقصود بالفلق هم الخلق جميعا، وذلك لأن الله خلقهم من عالم العدم إلى الوجود.
ومرة يقصد بالفلق الصباح، أي انبلاج الفجر بعد ظلمة الليل، فلم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله بالتعوذ برب الفلق؟ ذلك لأن الفلق يخلص الإنسان من مظنة الشرور بتعبير المفسرين.
ومن المعلوم أنه في الغالب فإن الشر يحدث في الليل، فأغلبية السرقات تحدث ليلا، فالليل يشكل له ستارا وحجابا عن أعين الناس من أن تراه عند سرقته. كما أن أغلب الحيوانات الخطيرة والضارة بالإنسان والمفترسات تنشط ليلا كبعض الحشرات والعقارب وغيرها.
كما أن المؤامرات تحاك عادة في ظلام الليل، ولذا ترى العرب يقولون في بعض أمثالهم: هذا أمر دبر بليل.
وعندما ينبلج الفجر ويأتي النور تنعكس الآية، فيهرب السارقون وكل من اتخذ ظلمة الليل ستارا له لتنفيذ مآرب خبيثة، فمن ينشط ليلا غالبا ما يضمر الشر في نفسه، فمجتمع الليل هو مجتمع السارقين والمنحلين أخلاقيا والعاطلين عن العمل ومتعاطي المخدرات وغيرهم من الفئات التي تمثل الشر في المجتمع الذي أمر الله بالتعوذ منه.
ولذلك جعل الله لنا الليل لباسا والنهار معاشا، فقد أمرنا لله بالاستراحة ليلا والنشاط نهارا، وهذه هي سنة الكون، وهذا ما كان عليه الأولياء الصالحون والأئمة الطاهرون عليهم السلام وعلى رأسهم سيد العباد والزهاد أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يقوم ليله ولا يفتأ يذكر الله قائما وقاعدا وراكعا وساجدا إلى أن ينبثق ضوء النهار لينصرف إلى عمله وتحصيل قوت يومه وهو لم يشبع من مناجاة الله والحديث إليه.
في الواقع إن الله لا يخلق الشر، والله لا يخلق إلا الخير، وكل ما يخلقه خير، وإن وجدت شرا فهو من خلقه هم لا من خالقهم، فالله يخلق كل مخلوق كصفحة بيضاء ناصعة لا يعتريها شيء، ثم يسود عبد الله صفحته يوما بعد يوم حتى يتوفاه الله ويعود إلى بارئه، فمنهم من ملأها بالسواد فكان مآله إلى العذاب، ومنهم من حاول لجم نفسه فلم يعتري صفحته سوى بعض السواد فأدخله الله جنته.
الله تعالى يخلق كل إنسان وله قابلية، فله أن يختار الخير وله أن يختار الشر، ومهما اختار فإنما يختار لنفسه، فمن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد.