نعمة الأرض – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا * وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا)
إن الأرض هي من نعم الله سبحانه علينا التي خلقها لنا لنعيش عليها ونحيا ونسكن، وأنزلنا أبونا آدم عليه السلام عليها وقال له (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى).
وقد أودع الله في هذه الأرض من الصفات والخصائص ما جعلها صالحة للسكن والعيش. وإن الأرض هي من نعم الله المنسية التي لا نشعر بها، ومن المعلوم أن من يغرق في النعمة لا يشعر بوجودها إلا أن يفقدها فيفتقدها، ومن ذلك قيل إن السمك لا يعرف ما هو الماء لأنه غارق فيه على الدوام.
وقد أورد المفسرون عدة آراء في تفسير كلمة (كفاتا)، وهي بمعنى الجمع، ويمكن أن تفسر بأنها إشارة إلى الجاذبية الأرضية التي أودعها الله في الأرض والتي لولاها لما كانت الحياة ممكنة عليها.
إن جاذبية الأرض تعمل كقوة مضادة لقوة دورانها حول نفسها، ولولاها لم يكن شيء ليستقر على سطحها بل ستجد كل ما على الأرض يسبح في الفضاء نظرا لسرعة دورانها الفائقة، والتي تقابلها قوة الجاذبية التي تحفظنا على سطحها.
كما يمكن فهم هذه الآية على أنها تدل على وجوب دفن الموتى في الأرض، وقد استدل الفقهاء من هذه الآية على وجوب دفن الميت وما يلحق به كعضو مقطوع وحتى الأظفار.
وهناك العديد من الحكم المترتبة على وجوب دفن الموتى في الأرض، فلولا دفن موتانا فيها لانتشرت الأمراض والأوبئة، فدفن الموتى في باطن الأرض هو أمثل مكان لها ليحفظها وتحلله المخلوقات التي تعيش في باطنها.
ومن الحكم أيضا هو أنه بدفن الميت ينسى ذووه وأقاربه وأحبابه مصابه ولا تبقى ذكراه الأليمة في نفوسهم طويلا.
كما أنها طريقة حضارية ومثالية لدفن الموتى لا كما تفعل بعض الشعوب كما يحدث في الهند حيث يقومون بإحراق جثث موتاهم بدل دفنهم، وهي طريقة قاسية بعيدة كل البعد عن الإنسانية، وهي من المثلة التي حرمها دين الإسلام.
كما استنتج الفقهاء حكما آخر من هذه الآية وهو حرمة سرقة أي شيء في القبر، واعتبار القبر الذي يدفن فيه الميت حرزا، لأنه كما هو معلوم فإن إجراء حد السرقة على السارق يتطلب عدة شروط منها السرقة من حرز كما يوجد حد أدنى للمسروق ينبغي تحققه لإجراء الحد.
واعتبر الفقهاء سرقة الأكفان مثلا من السرقة التي توجب إجراء الحد نظرا لتحقق الشروط الشرعية للسرقة.
كما ينبغي احترام القبور وعدم السير عليها ووطؤها بالأقدام احتراما لصاحبها الذي كان بالأمس حيا من الأحياء، فلا معنى للدوس على قبره وهو ميت.
ويقول تعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، ومن ذلك الأوكسجين الموجود الذي نتنفسه جميعا لكن العجيب أن نسبته لم تختلف منذ بدء الخليقة وحتى اليوم رغم تضاعف أعداد البشر آلاف وملايين المرات.
وقد سلب الله ملكية الهواء ولم يجعل لأحد عليه سلطانا لأنه أهم ما يحتاجه الإنسان في حياته ليعيش ولا يستطيع العيش دونه لبضع لحظات. كما أنه سلب ملكية الماء نظرا للحاجة الماسة له من قبل الإنسان.
وبعد الهواء والماء في الأهمية يأتي الغذاء الذي يعد حاجة ضرورية للإنسان لا يستطيع الحياة بدونها، فوفر له الغذاء بالكميات المناسبة، وقد أودع في هذه الأرض خصائص عديدة تجعلها صالحة للزراعة وإعطاء المحصول الوفير، فالمزارع يزرع بذرة في هذه الأرض ليحصل في المقابل على أطنان من المحاصيل من الحبوب وغيرها.
كما أن الله خلق لنا العديد من أنواع وصنوف المزروعات والخضروات والفاكهة، وخلق لكل منها طعمه ومذاقه الخاص كي لا نشعر بالملل والتكرار.
ويتم تملك الأرض بعدة طرق منها تملكها بالإحياء، فتعطى قطعة لشخص ما ليقوم بإحيائها وزراعتها، فإن استطاع أن يحييها ويزرعها فهي له وإلا تعطى لغيره لكي لا يتم تعطيلها وليستفيد منها البشر.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يعمل في الأراضي ويتملكها ويحرثها دوما ثم يقوم ببيعها ويشتري بثمنها عبيدا يعتقهم لوجه الله، وكانت هذه غايته وديدنه، فقد كان حرا يعشق الحرية للجميع ويأبى لأي بشر أن يكون عبد غيره، وهو القائل (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا).