إنذار الناس – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون)
لو أردنا استخراج حكم لأمر ما فعلينا استخراجه من المصادر والروايات المعتبرة صحيحة السند واضحة المدلول، أما أن نأخذ الرواية عن كل من هب ودب فهذا لا يستقيم وسيختلط الحابل بالنابل ولن نحصل على الحكم الذي أراده الله في الأمر الذي نريد.
ونحن إنما نأخذ أمورنا من روايات المعصومين لأنهم خير من يؤخذ عنهم الحكم، فهم لا ينطقون إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله، والرسول صلى الله عليه وآله لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وتشتد أهمية هذا الأمر فيما يتعلق بالأمور الغيبية الخارجة عن نطاق إدراك الإنسان، فهناك من الناس من لا يعتقد بمثل هذه الأمور بحجة أنه لا دليل ماديا عليها، والواقع أن هذه الأمور غيبية لا تدرك بالحواس ولا بالأدلة المادية.
وفي المقابل يخترع بعضهم من هذه الغيبيات ما لا أصل له، أو يأخذه من مصادر لا يؤخذ بها وليست معتبرة عند أهل العلم، فيكون الأخذ بها مجانبا للصواب، ومن ذلك عمل بعض الناس بالسحر وتسخير الجن وما إلى ذلك عبر قراءة بعض الآيات القرآنية، والحال أن مثل هذه الأمور منهي عنها في الشرع المبين ولا يجوز التعامل بها.
وقد جاء في العديد من الروايات المعتبرة أن تلاوة سورة يس على قبر الميت ينتفع بها الميت وتخفف عنه، فلا يأتي أحد ويعترض على مثل هذه الرواية بالقول إن جميع سور القرآن هي من الله وكلها بركة، فما الدليل على تخصيص سورة يس بالذات؟ فيأتي الجواب بأن هذا من الأمور الغيبية التي وردت في الحديث الصحيح المنقول عن النبي وعترته صلوات الله عليهم ولا سبيل إلى الإنكار بدعوى عدم معرفة السبب وراء ذلك.
كما أن هناك تيار يستنكر مثل هذه الروايات الواردة بالقول كيف يستفيد الميت من قرآن يتلى عنده وهو ميت ولم يعد قادرا على الإتيان بعمل بعد موته، وهذا لعمري من العجب العجاب، وهو رد على الله ورسوله، فهذا أمر تعبدي تعبدنا به رسول الله صلى الله عليه وآله، فنأتي نحن لمجرد أهواء نفسية وما شابه ذلك نضرب بها عرض الجدار؟!
وتحدد هذه الآية المباركة من سورة يس مهمة من مهمات النبي صلى الله عليه وآله وهي إنذار الناس، وإن إنذار الناس من أهم الأمور التي تردعهم عن ارتكاب الجرائم وافتعال المشاكل، وإن سياق الآيات منسجم مع لحن التخويف والترهيب لا الترغيب.
إن إنذار الناس أكثر أمر يردعهم عن الجرائم والجنايات، ومن مصاديق إنذار الناس المجتمع المحيط والعادات والتقاليد المتوارثة ونظرة الناس والجيران وغير ذلك.
ومع كل تلك الوسائل الضاغطة إلا أنك تجد الإنسان دوما ما يحيد عن المسار ويرتكب الجرائم ويفتعل المشاكل، فإذا لم يردعه كل ذلك فأي شيء يردع الإنسان إذن؟
الجواب هو أن أكثر ما يردع الإنسان هو الدين ولا شيء غير الدين، فالقانون الوضعي مهما علا شأنه وكان محترما من قبل الناس فإنه لن يحل محل الدين الذي من أبرز مهامه إنذار الناس وتخويفهم وترهيبهم من عذاب ينتظرهم في حال ارتكبوا شيئا ما.
وما يميز الدين عن سائر العوامل الرادعة هو أن المعتقد بالدين يعلم بأنه لا يوجد أي مكان يستر عليه جريمته أينما كان، ولو كان في قاع جب عميق، فإنه موقن بأن الله يرى خلقه وعباده أينما كانوا وأينما حلوا.
وكان النبي صلى الله عليه وآله له الولاية من الله على الناس وبها يحكم، فعندما كان يقوم بإنذار الناس فهو يقوم بما يقوم به انطلاقا من تلك الولاية الممنوحة له، وهذا يورد إشكالا على حكام اليوم الذين لم ينصبوا من قبل الله، فلأي مواطن أن يتساءل عن شرعية وأحقية من يحكمه وما يميزه عنه لكي يكون حاكما عليه، فلا أحد يحب أن يحكم ويتسلط عليه من شخص لا يعتقد بأحقيته، لكن حكم الأكثرية الذي يجري اليوم هو ما يخفف وطأة ذلك الأمر.
ويمكن فهم الآية بطريقين وفقا لفهم الحرف (ما)، فقد يأتي نافيا أو اسما موصولا.
وقال بعضهم في تفسير الآية إن إنذار الناس هذا موجه إلى أولئك الذين لم ينذر آباؤهم، ونحن من أولئك الناس الذي لم ننذر بشكل مباشر، فنحن لم نعاصر عصر النبي صلى الله عليه وآله حتى نكون من أولئك المنذرين بشكل مباشر، بل وصلتنا الأحاديث والروايات المنقولة في الكتب فآمنا بالإسلام عن طريق ذلك.
ورأي آخر يقول بأن الآية تفرق في إنذار الناس بين الجاهل القاصر والجاهل المقصر، فالجاهل القاصر هو من لم تصله آيات الله ولم يصله الإنذار الذي أنذر به الله عبر رسوله صلى الله عليه وآله، ولم تتوفر لديه السبل ولا الإمكانات لكي يبحث ويرى ويطلع، وهذا لا يحاسبه الله على ذلك لأنه لم تقم عليه الحجة، والله تعالى يقول في محكم كتابه (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
أما الجاهل المقصر فهو ذلك الصنف الذي يعيش في مدينة أو منطقة حضرية مثلا وفي عصر تنتشر فيه المكتبات ووسائل الإعلام والحاسوب وما إلى ذلك، ويعرف أن هناك مذاهب وأديانا مختلفة حوله ويراهم كل يوم، لكنه لا يكلف نفسه بالبحث أو التقصي عن صدق هذا المذهب أو ذاك، وكل ما يعرفه هو ما يحشو به ذهنه الخطباء ومن يسمون أنفسهم دعاة وما قد يروونه له من الأكاذيب والأباطيل التي لا تمت للحقيقة بصلة، في حين أنه لو أتعب نفسه قليلا واتجه إلى مكتبة من المكاتب أو قرأ كتابا من كتب ذلك المذهب لتبين له زيف ادعاء من أخبره بتلك الأكاذيب، لكنه لا يفعل، فهذا هو الجاهل المقصر.
والآية هنا في معرض الحديث عن إنذار الناس من فئة الجهلة القاصرين الذين لم ينذر آباؤهم.
وإن كانت ما بمعنى الذي فيكون المقصود بالآية أن إنذار الناس إنما يتم بما تم إنذار آبائهم به، فما أنذروا به هو نفس الإنذار الذي تعرض له آباؤهم، فالأحكام التي أمرنا الشرع بالتعبد بها منذ زمن النبي صلى الله عليه وآله إلى اليوم هي ثابتة لا تتغير، فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة.
وهناك استثناء فيما يتعلق ببعض الأحكام المستحدثة التي لم تكن معرض ابتلاء في ذلك الزمن كمسائل المصارف أو التأمين أو السيارات والأجهزة الحديثة، ولكن لكل شيء حكم في الإسلام ولا يوجد أمر ليس للإسلام فيه كلام ولا حكم، ويحتاج الأمر إلى شخص مطلع على الكتاب والسنة والروايات الشريفة لكي يستخرج منها الأحكام.