الحشر – د. الشيخ أحمد الوائلي
(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون)
لماذا عبر القرآن بصيغة الماضي في الآية المباركة؟
لقد قالت الآية المباركة (ولقد جئتمونا) ولم تقل ستأتوننا، ورغم أن يوم الحشر لم يأت بعد ولم يحن وقوعه فإن القرآن عبر بصيغة الماضي، والسبب في ذلك أنه شيء متحقق الوقوع أي واقع لا محالة لأن من وعد به هو الله عز وجل ولن يخلف الله وعده.
ومثل ذلك قوله في آيات أخرى (يوم ينفخ في الصور) وآيات ومظاهر يوم الحشر.
وتقول الآية الكريمة بأن الناس يحشرون فرادى كما خلقوا أول مرة، وهي إشارة إلى الهيئة التي سيحشر عليها الناس يوم القيامة، فرغم أن الناس يحشرون جميعا في ذلك اليوم إلا أن صفة الجماعة لا تتحقق فيهم لأن كل نفس هناك تخشى على نفسها ولا يعرف الأخ أخاه ولا الزوج زوجته (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه).
وهناك في القانون الجنائي اليوم عقوبة مشددة توسم بالانفراد، فيستجوب بصورة منفردة أو يعاقب في الحبس الانفرادي أو زنزانة منفردة.
ومن أهداف ذلك إيقاع الوحشة في نفوس الناس من ذلك اليوم المهيب، فالعقاب الفردي أشد وقعا وأشد وطأة على المعاقب، والعقاب الجماعي أهون وأخف وطأة بطبيعة الحال، لأن العقاب الانفرادي يعني أنه لن يشعر بك الآخرون وبعقابك ولن ينجيك أحد مما سيحل بك، وكلها من أهوال يوم القيامة.
وهناك فريق يفسر الآية بأنها دليل على المعاد الروحاني دون المعاد الجسماني، ومعنى المعاد الروحاني هو أن الإنسان يحشر في يوم القيام بروحه لا بجسمه.
ويستدلون على ذلك بأمور منها أن الإنسان عندما يموت ويدفن في قبره فإن أجزاءه تتحلل وتختلط بالتراب، ثم يذر هذا التراب في الهواء فينتقل قسم منه إلى أماكن أخرى وقسم إلى البحر وقسم إلى الجبال والأنهار وغير ذلك، ثم تتحول هذه التربة إلى تربة زراعية فتنمو المزروعات من ذلك التراب الذي نشأ من الأجساد المتحللة للموتى، فيأكل الناس من ذلك التفاح وتلك الخضروات والمزروعات وكلها عبارة عن أجزاء من أجساد الموتى شئنا أم أبينا.
كما أن الإنسان هو في الحقيقة روحه وليس جسمه، فالجسم مجرد وعاء يستوعب الروح، فإذا خرجت الروح لا قيمة للجسم، فيمكن لهذا الجسم أن يكبر أو يصغر ويقوى أو يضعف ويشيخ، وقد يغضب ويثور أو يهدأ، وتتغير صفاته الخلقية يوما بعد آخر، لكن الروح تبقى هي هي.
والروح هي من تتحكم بالإنسان وصفاته وحركاته وسكناته وأفعاله، ولولا الروح لكان الجسم جثة هامدة لا حياة فيها ولا روح.
وعند ذلك يعود كل شيء إلى أصله، فجسم الإنسان من تراب فيعود إلى التراب، أما الروح فترجع إلى ربها كما يقول الله تعالى.
ولكن يشكل على ذلك بأمور منها أنه لو كان الأمر كذلك لما شرع الشارع المقدس والفقه الإسلامي جملة من التشريعات المرتبطة بالجسد، فمثلا لو سرق شخص وتحققت شروط السرقة المذكورة في الشرع قطعت يد السارق، والحال أن الروح هي من جعلت السارق يسرق وليست يده المادية التي أمرنا الله بقطعها.
وهذا راجع إلى أن كل ما يشعر به الإنسان ويحس به هو من الروح، فالروح هي التي تشعر باللذة أو الألم، فعندما نقطع يد السارق لا نقصد بذلك اليد بل نقصد الألم الناتج عنها الذي تتأثر به الروح، وإلا اليد هي مجرد أداة موصلة إلى الجريمة لا أكثر.
والجسد أشبه بالأسلاك الكهربائية، فهذه الأسلاك مجرد موصلات، ولو انقطعت الطاقة عنه من المصدر الذي هو الروح لبقيت الأسلاك معلقة بلا فائدة.
كما يستدل أصحاب نظرية المعاد الروحاني على أن الشارع المقدس يقطع التكليف عن الإنسان بمجرد أن يفقد عقله ولو بشكل جزئي، فلا يكلف الإسلام المجنون أو المغشي عليه أو الصبي بالتكاليف الشرعية وذلك لأن العقل فيهم غير مكتمل ولا يصح تكليفهم بما لا يسعهم فيسقط عنهم التكليف ويرفع عنهم القلم.
وبذلك يفسرون التعبير بفرادى في الآية الكريمة بأنها ليست حشرا للروح والجسد بل للروح وحدها، وهذا سبب التعبير بفرادى.
وقد أجمع المسلمون على بطلان هذا الرأي وهذه النظرية، واتفقوا على تحقق المعاد الجسماني بأن الإنسان يحشر بجسده وروحه، وأن الحشر هو حشر للجسد والروح معا ولا يفترقان، ولا تشير هذه الآية بحال من الأحوال إلى المعاد الروحاني، حتى لو قلنا بأن العقاب يقع على الروح وليس الجسد، لكن الحشر يشمل الجسد كما يشمل الروح.