وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد.. – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)
الفقهاء والمفسرون عندما يقفون على معنى الجعل في القرآن الكريم يقسمونه إلى قسمين: جعل تكويني أي الخلق والتكوين الذي يكون عليه وبه الخلق، أو جعل تشريعي وهو تشريع الحلال والحرام، فهو سبحانه جعل الخمر والزنا – على سبيل المثال – حراماً وجعل الصلاة وصيام وغيرهما واجباً، ثم جعل كثير من الأمور حلالاً.
وسبب نزول هذه الآية أن قريش لم تدع وسيلة لتكف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله عن دعوته إلا واتخذتها وسيلة، فمرة يغرونه بالمال والجاة ومرة يتهالون عليه بالتشائم والاتهامات، إما ساحر أو كاهن أو شاعر أو يتهمونه بالكذب، حتى لم يبقى لهم وسيلة إلا تعذيب من تمكنوا من أتباعه إلا أنهم وجدوا أن تعذيبهم لم يجد ينفعاً.
فلما استنفذوا كل وسائلهم معه دون أدنى جدوى تمنوا له الموت وأصبحوا يرددون عبارة: متى يموت محمد حتى نتخلص من دعوته، وقد وصل تمنيهم هذا إلى أذن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، الأمر الذي تسبب بألم في نفسه صلى الله عليه وآله، فهو يتمنى لهم الخير في النجاة وسعادة الدارين وهم يتمنون له الموت، فنزلت الآية الكريمة لتخفف وقع الألم فيه نفس النبي صلى الله عليه وآله.
فإن أولائك الذين تمنوا الموت للنبي صلى الله عليه وآله هل خلدوا في الحياة الدنيا كأجساد تمشي على الأرض، أم أن التاريخ أصبح يذكرهم بأبشع الصفات بينما النبي صلى الله عليه وآله هو من خلد ذكره وكثر أتباعه ومحبيه وما من تانية تمر على وجه الأرض إلا تدصح بقعة من بقاعها بـ” أشهد أن محمداً رسول الله”.
وكأن هذه الآية الكريمة تشير أيضاً إلى أن هذا الإنسان يمضي عمره وهو يصرف كل ما لديه على بدنه الفاني، فالإنسان يأكل لأجل الجسد ويتزوج لأجل إشباع رغبات الجسد، ويدور الأطباء لأجل سلامة الجسد، ويمارس التمارين الرياضية للحفاظ على قوة هذا الجسد، وليس في كل ذلك بأس إلا أن البأس إن لم يصرف ماله وقوته لأجل سلامة الروح التي هي في الواقع خالدة، فإما أن تخلد في النعيم أو في الجحيم.