أخلاق أمير المؤمنين عليه السلام وسيرته في رعيته – د. الشيخ أحمد الوائلي
(ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به ويستضيء بنور علمه ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد. فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها وفرا ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا… بلى! كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله… وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر وسد فرجها التراب المتراكم)
إن أخلاق أمير المؤمنين عليه السلام أشهر من النار على العلم وأشهر من أن تذكر، وإن سيرته في رعيته كان يحكمها الأخلاق والقيم والمثل الإسلامية العليا، وكان همه الأول هو أن ينهض بالأمة ويرفع مستواها لا أن يتنزل إلى مستوى الرعية، فالمربي الحقيقي الذي يعرف كيفية التربية يحاول الرفع من مستوى من يربيه لا أن ينزل إلى مستواه وبالتالي لا يستفيد الطرفان شيئا بل قد يتضرران.
وإذا نظرنا إلى سيرة أمير المؤمنين عليه السلام عند تسلمه مقاليد الخلافة الإسلامية الظاهرية فإننا نلاحظ أن حركة الفتوحات الإسلامية قد هدأت وضعفت في عهده ولم يتقدم المسلمون كثيرا في زمانه، فما هي أسباب ذلك يا ترى؟
يطرح بعضهم هذه الشبهة للانتقاص من قدر أمير المؤمنين عليه السلام وهو أسمى وأعلى من أن تطرح مثل هذه الشبهات عليه، ولكن هناك أسبابا موضوعية جعلت حركة الفتوحات تضعف في فترة خلافته الظاهرية، وأهم هذه الأسباب هو انشغاله بالحروب الداخلية التي أشعلها خصومه في الداخل، فلم يفسحوا له المجال في التفكير في أمر الفتوحات الإسلامية وأن ينشغل بها.
ومن المعلوم أن فترة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام لم تدم أكثر من بضع سنوات قضى جلها في الحروب الداخلية التي طرأت له بداية بمعركة الجمل وخروج عائشة وطلحة والزبير عليه في معركة حصدت أرواح الآلاف من المسلمين دون فائدة.
ثم جاءت معركة صفين التي كانت أقسى المعارك وأشدها وأطولها وحصدت الآلاف من المسلمين دون نتيجة تذكر، وكانت بخروج معاوية بن أبي سفيان على أمير المؤمنين عليه السلام.
وأخيرا معركة النهروان التي استشهد الإمام عليه السلام قبل أن ينهي أمر مدبريها وهم الخوارج الذين ظهروا في تلك الفترة عقب معركة صفين، وبذلك فقدت الأمة أعظم من فيها وعمودا راسخا من أعمدة الإسلام المحمدي، ليتركها فيما بعده لمن عاث في الأرض فسادا وحولها إلى ملك عضوض.
لقد انشغل أمير المؤمنين عليه السلام طيلة سنوات حكمه الدنيوي بتهذيب أخلاق رعيته وتغيير سلوكهم وتربيتهم تربية إسلامية نقية، وكان دأبه طوال فترة حكمه أن يزرع فيهم القيم الإسلامية الأصيلة من العدل والرحمة والتآلف والتقوى والعمل الصالح والانصراف عن الدنيا وزخارفها، وهو ما يقوله في خطبته هذه.
ويذكر لنا التاريخ نماذج مشرفة عظيمة من عدل أمير المؤمنين عليه السلام في رعيته وكيف كان يساوي في العطاء بين كل أفراد الرعية لا يفرق في عطائه من بيت المال بين سيد وعبد وحرة وأمة وجارية، ويروي لنا التاريخ العديد من القصص حول ذلك العدل الذي قل نظيره، فقد كان السائد عند من سبقه من الحكام التمييز في العطاء بدعوى قتال رسول الله صلى الله عليه وآله أو لأسباب أخرى، وزاد الأمر سوء في عهد الخليفة الثالث عثمان حيث كان يعطي أقاربه عطاء غير محدود ولم يراع العدل في العطاء فثار عليه الناس حتى قتل.
وكان الناس وكبار الصحابة يعتقدون بأن أخلاق أمير المؤمنين عليه السلام وعدله واستقامته تلك هي علامة على ضعفه واستكانته ولم يعلموا بأن عدله بين الناس وإنصافه المظلوم واقتصاصه من الظالم يعد قوة لا مثيل لها، ولو كتب الله لأمير المؤمنين عليه السلام البقاء أكثر من ذلك لرأيت مجتمعا صالحا غير الذي تعرفه الآن، ولكن شاء القدر الإلهي أن يأخذ أمانته، وشاءت حكمته تبارك وتعالى أن يبتلي الأمة برعاة من أمثال يزيد ومن لف لفه ليملؤوا الأرض فسادا وجورا وظلما.