المباهلة: سياقها، أحداثها، ودلالاتها – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
﴿فَمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُل تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَل لِّعَنتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ “آل عمران: 61”
السياق التاريخي
عام الوفود (السنة التاسعة للهجرة): سُمِّي كذلك لكثرة وفود القبائل على النبي صلى الله عليه وآله إما إيمانًا أو مسايرةً لقوة المسلمين بعد فتح مكة.
منطق القوة مقابل الإيمان: كثير من القبائل قبلت الإسلام بدافع “منطق القوّة” لا قناعةً برسالة التوحيد، فتبدَّد إيمان بعضهم بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله، مما دلَّت عليه الآية في قوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ…﴾
سبب حادثة المباهلة
وصل وفد النصارى مع قسّيسيه وكهَنَتِه إلى المدينة، فسمح لهم النبي صلى الله عليه وآله بالدخول إلى المسجد للنقاش.
دار النقاش حول عقيدة المسيح (عيسى بن مريم): فهم يرون فيه ابن الله، بينما الإسلام يقرُّ كونه عبدًا ورسولًا من خلق الله.
لم تُحسم الجدالات بالحجة المنطقية، فاقترح النبي صلى الله عليه وآله “المباهلة” كحل أخير: استحضار أقرباء كلِّ فريق لدعاء لعنة الله على الكاذبين.
وكان الذين استدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله للمباهلة بهم:
أبناءنا وأبناءكم – الحسن والحُسَيْن عليهما السلام.
نساؤنا ونساءكم – فاطمة الزهراء عليها السلام.
أنفسنا وأنفسكم – عليّ بن أبي طالب عليه السلام مع أجلّاء النصارى.
لحظة الفصل والتراجع
أمام مشهد الأهل الكرام من أحفاد ونساء وصهر، شعر نصرانيو نجران “بقوّة السند الإيماني” للنبي صلى الله عليه وآله فأعربوا عن خشيتهم من عاقبة المباهلة.
طلبوا التراجع عن المباهلة، وعقدوا الصلح بدفع الجزية مقابل الأمان لـ”المسيحيين في ديارهم”.
دلالات آية المباهلة:
تثبيت صدق الرسالة: استحضار دعاء الغيب عاقبة لمن يدّعون باطلاً، وهو ما لم يُخضِع له صرف المناورات السياسية.
دلالة “أبناءنا”: الكلمة تؤكد قرابة الحسن والحسين (عليهما السلام) للرسول ﷺ، مخالفَةً للعُرف الجاهلي الذي لا يعدّ ولدَ البنت ابنًا للجدّ.
محاولات التزوير الأمويّة: رُصد سعي متأخّر لمحو هذه “الشهادة القرآنية” على صلة الأولاد بالنبي صلى الله عليه وآله ، لكنّ صراحة النصّ جعلت محوها مستحيلًا.
درس في الإيمان والتوكل:
يتجلّى في استعداد النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته للوقوف إلى جوارهما أمام “دعوة العلّة” كدليل على ثبات العقيدة.
خلاصة
تُعَدّ آية المباهلة نموذجًا فريدًا في تاريخ العقائد والحوار الديني، إذ جمعت بين الحجة الشرعية وتفعيل رابط أهل البيت، وبيَّنت أن مصداقية الرسالة لا تُقاس بالمناورات الدبلوماسية، بل بقوة التوكل والإيمان، مهما بلغت أقدام الخصوم في الجدل والمجادلة.