التأمل بخلق الله تعالى – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46].
هذه الآية العظيمة تضع أمام الإنسان دعوة للتأمل في خلق الله تعالى، وتبيّن أن العمى الحقيقي ليس عمى البصر وإنما عمى البصيرة. فالعين قد تبصر صور الأشياء، لكن القلب إذا لم يعقل حقائقها ولم يتأمل في دلالاتها، كان صاحبه في ظلمات الغفلة والضلال.
سبب نزول الآية ومعناها:
نزلت هذه الآية ردًا على سؤال عبدالله بن أم مكتوم الذي كان أعمى البصر، حين خشي أن يكون أعمى الآخرة أيضًا استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى﴾ [الإسراء: 72]. فجاءت الآية لتوضح أن المراد ليس العمى الحسي وإنما العمى القلبي، أي فقدان البصيرة والقدرة على إدراك الحقائق.
المنهج التأويلي عند مذهب أهل البيت عليهم السلام:
من خلال هذه الآية وغيرها، يظهر منهج علماء أهل البيت (عليهم السلام) في التفسير، وهو التمييز بين ما يمكن الأخذ بظاهره من النصوص القرآنية وما يجب تأويله. فمثلًا: قوله تعالى ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10] لو أُخذ على ظاهره لنُسبت لله تعالى صفة الجسمية، وهذا يناقض التوحيد. لذلك كان التأويل ضرورة لفهم المعنى الصحيح، حيث المقصود باليد هنا القدرة والسلطان.
التأمل في خلق الله: كتابان للهداية:
الله تعالى جعل للإنسان كتابين يهتدي بهما:
الكتاب المدون: وهو القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم.
الكتاب الكوني: وهو عالم الخلق بما فيه من نظم دقيقة وآفاق واسعة.
فمن سافر في الأرض وتأمل بديع خلق الله من جبال وبحار ونجوم وأنفس، وصل بعقله إلى وجود خالق واحد قادر حكيم.
معنى “السير في الأرض”:
السير في هذه الآية يشمل السفر الحسي والمعنوي.
السفر الحسي: أي التنقل في الأرض، كما ورد في الحديث: «لو يعلم الناس برحمة الله للمسافر لأصبحوا على ظهر سفر…». لكن الرحمة لا تشمل من يسافر لمعصية أو لفعل محرم.
السفر المعنوي: وهو التأمل في الكون واكتشاف سنن الله تعالى في الخلق، وهذا السفر أعظم أثرًا على بناء الإيمان.
أحكام السفر في الإسلام:
الإسلام لم يترك السفر بلا ضوابط، بل له أحكام متنوعة:
واجب: كالسفر لحفظ النفس والعرض أو للهجرة بدين الإنسان كما فعل المؤمنون الأوائل.
مستحب: مثل السفر لطلب العلم أو صلة الرحم.
مباح: كالسفر لتحصيل الرزق والمعاش.
محرم: كالسفر لفعل معصية أو ارتكاب منكر.
القلب والبصيرة في القرآن الكريم:
المقصود بالقلب في الآية ليس العضلة التي تضخ الدم، بل هو العقل والوعي والبصيرة. فكم من إنسان يرى بعينيه أدق أسرار الكون لكنه ينكر وجود الخالق! هؤلاء وصفهم الله بأن لهم عقولًا لا يعقلون بها وآذانًا لا يسمعون بها، لأن قلوبهم عمياء عن الحق.
الخلاصة:
التأمل في خلق الله تعالى هو طريق يقود إلى الإيمان الحق، فالإنسان حين يسير في الأرض ويتفكر في بديع الكون يدرك أن وراء هذا النظام المحكم خالقًا واحدًا قادرًا. والآية الكريمة تؤكد أن العمى الحقيقي ليس عمى البصر، بل هو عمى القلوب عن نور الهداية. ومن هنا، فإن من أراد النجاة فعليه أن يجمع بين عقل واعٍ وقلب بصير، فيقرأ كتاب الله المدون والكتاب الكوني معًا ليصل إلى المعرفة التوحيدية الكاملة.