حبائل الشيطان – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
قال تعالى في كتابه العزيز: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) سورة الإسراء: 64
ترسم هذه الآية الكريمة مشهدًا من المحاورة الإلهية بين الله تعالى وإبليس، بعد أن أعلن الأخير تمرّده وعزمه على إغواء بني آدم. وتأتي الآية بصيغة التهديد لا الإباحة، أي أن الله تعالى يبيّن حدود مكر الشيطان وضعف كيده، لينبّه الإنسان إلى ضرورة التيقّظ من وساوسه وحبائله.
معنى قوله تعالى “واستفزز من استطعت منهم بصوتك”:
تحتوي هذه الجملة على معنيين رئيسيين بيّنهما المفسّرون:
- الصوت الباطني – نداء الغرائز:
المعنى الأول هو الخطرات النفسية التي تدعو الإنسان إلى ما لا يرضي الله تعالى. وهذا هو صوت الغرائز في مقابل صوت العقل. فالإنسان يعيش صراعًا داخليًا بين نداء العقل الذي يأمر بالخير، ونداء الغريزة التي تميل نحو الشهوة والهوى.
وقد سمّى القرآن هذا النداء “وسوسة الشيطان”، لأن الشيطان يستغل ضعف الغرائز ليصرف الإنسان عن طريق الحق، في حين أن كيده ضعيف كما قال تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا).
- الصوت الظاهري – الغناء واللهو:
أما المعنى الثاني لـ”استفزز بصوتك” فهو صوت الغناء، كما ورد في تفسير كثير من العلماء. فقد عدّ الغناء صوتًا شيطانيًا يهيّج الشهوات ويصرف القلب عن ذكر الله، ولذلك حرم الإسلام الغناء اللهوي الذي يفسد النفس ويضعف الوجدان.
أما من يُجبر على سماعه دون قصدٍ منه فلا إثم عليه، لأنّ الإثم مشروط بالقصد والرغبة في الاستماع، لا بمجرد وصول الصوت إلى الأذن.
قوله تعالى (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك):
قد يتساءل البعض: هل للشيطان خيلٌ ورجال؟
الجواب أن الآية جاءت على سبيل التمثيل والتشبيه، فالمقصود بـ”خيله ورجله” كل من يسير في طريق المعصية ويعين على الباطل.
فالخيل والرجال هنا رموز لكل قوةٍ أو وسيلةٍ تُستخدم في غير طاعة الله، سواء كانت حربًا ضد الحق أو دعوةً إلى الفساد.
وقد أوضح أمير المؤمنين عليه السلام هذا المفهوم في قوله:
“الخيل للطلب والهرب، ولست أطلب مدبرًا ولا أنصرف عن مقبل.”
أي إنّ المؤمن لا يركب خيل الشيطان، بل يثبت في ميدان الحق لا يفرّ من الحق ولا يطلب الباطل.
مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد:
من حبائل الشيطان أيضًا اشتراكه في الأموال والأولاد، أي تدخله في أساليب الكسب والإنفاق، وتوجيهه للذرية نحو الغواية.
فالمال الذي يُكسب من الحرام أو يُصرف في الحرام هو من مشاركة الشيطان، كما أن تربية الأولاد على اللهو والإعراض عن ذكر الله هي من ميادين عمله.
ولذلك كان واجبًا على المؤمن أن يطهّر ماله من الحرام ويربّي أبناءه على التقوى والذكر والحياء، لأن الشيطان لا سلطان له على من كان قلبه موصولًا بالله.
مقاومة حبائل الشيطان:
الإنسان مخيّر أمام وساوس الشيطان، فإما أن يستجيب لنداء الهوى أو يصرف قلبه عنه بالذكر والصلاة والصبر.
ولولا هذه القدرة على المقاومة، لما صحّ الثواب والعقاب، لأن التكليف لا يكون إلا مع الاختيار.
ولهذا كان جهاد النفس أعظم الجهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وآله بعد رجوعه من المعركة: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.”
أي جهاد النفس ضد الشيطان وأهوائها.
الخلاصة: طريق النجاة من حبائل الشيطان:
حبائل الشيطان كثيرة ومتنوعة، تبدأ بالوسوسة الخفية وتنتهي بالوقوع في المعصية الجهرية.
غير أن الله تعالى زوّد الإنسان بعقلٍ ووجدانٍ وشرعٍ يعينه على التمييز بين الخير والشر، وترك له حرية الاختيار ليبلوَه أيتّبع طريق النور أم طريق الغواية.
فمن استعان بالله وداوم على الذكر والطاعة كان في حرزٍ من الشيطان، ومن غفل وانقاد لهواه صار من أتباع إبليس دون أن يشعر.