قناة المعارف الفضائية | سراج العلم والفضيلة
فهرس: المنبر العميد
آخر برامج من: الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (ره)
آخر برامج في قناة المعارف الفضائية

القانون العشائري بين الجاهلية والإسلام – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله

قال أمير المؤمنين عليه السلام: “وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول.”

تبدو هذه الوصية في ظاهرها دعوة إلى الاعتزاز بالعشيرة والانتماء القبلي، ولكنّ جوهرها أعمق بكثير من مجرد الروابط العائلية أو القومية، فهي تحثّ على إكرام العشيرة بما يرضي الله لا بما يمليه التعصب الأعمى أو قانون الجاهلية.

 

العشيرة في المجتمع الجاهلي:

قبل الإسلام، كان القانون العشائري هو النظام السائد في الجزيرة العربية، إذ لم تكن هناك دولة مركزية ولا قوانين مكتوبة، بل كانت القبيلة الحصن والحاكم والملجأ.

كان الفرد يحتمي بعشيرته والعشيرة تحتمي بأفرادها، وكان الولاء للعشيرة فوق كل شيء. فإذا رفع شيخ القبيلة لواء الحرب، تداعى رجالها من كل صوب دون سؤال عن السبب أو العدو.

ويروى أن الأحنف بن قيس كان إذا غضب، غضب معه مائة ألف سيف لا يسألونه: فيمَ غضب ولا ضد من يقاتلون!

وهكذا كانت الجاهلية — ولاء أعمى وقتال بلا حق ودماء تُسفك بلا مبرر.

 

موقف الإسلام من القانون العشائري:

جاء الإسلام فهدم هذه العصبيات، وأرسى بدلاً منها قانون العدل الإلهي، فصار الولاء لله ورسوله وأوليائه، لا للعشيرة أو القبيلة.

قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

أي أن ميزان الكرامة ليس الحسب ولا النسب، بل التقوى والعمل الصالح.

ومن هنا نفهم أن وصية الإمام علي عليه السلام لا تدعو إلى العصبية القبلية، بل إلى إكرام العشيرة في حدود الشرع والعقل، لأنها الامتداد الطبيعي للإنسان، وجناحه الذي يطير به في ميدان الخير والعطاء، لا في ميدان البغي والعدوان.

 

حدود الطاعة والعلاقات العشائرية:

الإسلام جعل الطاعة المطلقة لله تعالى ثم لرسوله وخلفائه المعصومين عليهم السلام.

فلا طاعة لأب أو شيخ أو زعيم في معصية الله، لأن الله وحده العالم بالمصالح والمفاسد.

قال تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).

ومن هنا سلب الإسلام سلطة الأب أو الزعيم حين يأمر بالباطل، فلا طاعة في سفك دم، ولا في ظلم، ولا في حروب لا شرعية.

فقد حدّد الله موارد القتل والقتال ضمن قوانين دقيقة مثل القصاص، والدفاع عن النفس والعِرض، وحدود الزنا والكفر بعد الإيمان.

وما عداها فدماء الناس محرّمة، لأن الإنسان خليفة الله في الأرض، وكرامته مصونة شرعًا وعقلاً.

 

القانون العشائري في ضوء العدالة الإسلامية:

لم يلغِ الإسلام مفهوم العشيرة، بل طهّره من الجاهلية وجعله رابطة إنسانية واجتماعية تُبنى على النصرة في الحق، لا على الظلم والاعتداء.

فالمؤمن مأمور بإكرام أهله وعشيرته، والإحسان إليهم، وصلة رحمهم، لأنهم سنده الاجتماعي الذي يعينه على طاعة الله ونفع الناس.

لكن في الوقت نفسه، يجب أن يخضع كلّ ذلك إلى القانون الإلهي الذي يساوي بين الناس، ويمنع أن تتحول العشيرة إلى دولة فوق الدولة أو سلطة فوق الشريعة.

 

أثر التوازن بين الانتماء العشائري والإيمان:

حين يجتمع الانتماء العشائري الشريف مع الإيمان الصادق، ينشأ مجتمع متماسك قوي، أساسه العدل والرحمة، لا العصبية والغلبة.

أما إذا تغلبت القبلية على الدين، ضعفت الأمة وتفرقت كلمتها، كما حدث في فترات كثيرة من التاريخ حين تحوّل الولاء من الله إلى القبيلة.

ولهذا قال الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: “من دعا إلى عصبيةٍ فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه.”

 

الخلاصة: من الجاهلية إلى الحضارة الإيمانية:

القانون العشائري كان في الجاهلية وسيلة لحماية الفرد من الفوضى، لكنه تحوّل إلى أداة للظلم حين انفصل عن قيم السماء.

أما في الإسلام، فقد أُعيد تنظيمه ضمن منظومة العدالة الإلهية، فأصبح الانتماء للعشيرة جزءًا من منظومة اجتماعية متكاملة، تحكمها شريعة الله وأخلاق الأنبياء.

فإكرام العشيرة في الإسلام يعني: صلتها بالبرّ والإحسان، الدفاع عنها في الحق، ودعوتها إلى الخير والتقوى.

 

مواضيع مشابهة