نهج البلاغة
بحث حول كلام أميرالمؤمنين علي عليه السلام في وصف الراسخين في العلم:(هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ وَ بَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ وَ أَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ)
أنظر إلى المعاني العميقة التي تحملها هذه الكلمات وهي ذاتها ديباجة القرآن، الكريم لأن أمير المؤمنين عليه السلام هو تلميذ القرآن الكريم
هناك من يدعي أن نهج البلاغة ليس للإمام علي عليه السلام وهذا أمر طبيعي إذ أن كل ما ينسب إلى علي عليه السلام يثار حوله الكثير من الشكوك والشبهات
هناك كثير من القوانين التي نراها في العلوم المختلفة لم تأتي فجأة بل إنها مرت بأدوار مختلفة أما نهج البلاغة لم يمر بهذه الأدوار
إن ابن خلدون الذي يعتبر صاحب علم الإجتماع لم ترتقي بعض نظرياته إلى يومنا هذا للحقائق العلمية فيعظمونه ويبجلونه غاية التبجيل ويعتبرونه مؤسس علم الاجتماع، فلماذا يستكثرون على الإمام علي عليه السلام هذه المفاهيم التي عرضها في نهج البلاغة وهو تلميذ القرآن الكريم
إن العبقري هو الذي يعلو على أقرانه ويتجاوز حدود زمانه وإلا لن يستطيع أن يفوق المجتمع الذي يعيش فيه وتعال إلى أميرالمؤمنين وانظر هل سبق أحد علي عليه السلام في نظرياته في التربية والأخلاق والسياسة وقل لي في أي بعد من أبعاده لم يكن عبقريا
ومن أسباب التشكيك في نهج البلاغة هو أن الجامع لهذا الكتاب هو الشريف الرضي، وانظر كيف شكك ما يسمون بالعلماء في شخصية هذا الرجل العظيم فيقول أحدهم عن الرضي أنه رافضي معتزلي وهو لا يعرف فرق الإمامية عن المعتزلة والحال أن المعتزلة عيال على الإمامية في كثير من المسائل التي يتبنونها
والحال أن المسعودي يصرح أن خطب الإمام علي عليه السلام المطولة تجاوزت الأربعمائة خطبة وكان الناس يتداولونها وهذا الأمر كان قبل ولادة الشريف الرضي بسنين طويلة
ولا شك أن جميع المفاهيم التي عالجها في كتاب نهج البلاغة هي مفاهيم استقاها من القرآن ومن سنة النبي صلى الله عليه وآله
وقد يشككون في كتاب نهج البلاغة لأجل استعمال الإمام بعض الألفاظ التي شاع استعمالها في الفلسفة كلفظة الأزل والحال أن الإمام عليه السلام استعملها في مفهومها اللغوي أو يقولون أن وجود السجع غريب على ذلك الزمان والحال أن القرآن مليء بهذا النوع من السجع
إننا لو درسنا شخصية أميرالمؤمنين عليه السلام لا نجد سلوكا واحدا ينافي العلم والأخلاق ولذلك أخطأ الذين عاشروا الإمام بتقييم شخصيته فيأتي أحدهم للإمام يطلب منه إبقاء أحد العمال الظلمة لحين استقرار الحكم له، ولكن الإمام لم يكن ليبقي معاوية على الحكم ومعاوية هو نفسه الذي يرسل بسر بن أبي أرطأة ليقتل ثلاثين ألفا في يوم وليلة.
إن المبدأ الذي أسس له أمير المؤمنين تراه في كلمته التي أطلقها فخلدها التاريخ : (قَدْ يَرَى اَلْحُوَّلُ اَلْقُلَّبُ وَجْهَ اَلْحِيلَةِ وَ دُونَهَا مَانِعٌ مِنَ اَللَّهِ وَ نَهْيِهِ فَيَدَعُهَا مِنْ بَعْدِ قُدْرَةٍ وَ يَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي اَلدِّينِ ) لم يكن هم الإمام عليه السلام في يوم من الأيام أن يحصل على كرسي الخلافة ثم يخرج محملا بالآثام وآهات المظلومين، بئس الأمر إذا انتهى إلى هذا الحد
(استلانوا ما استوعره المترفون) إن المترف يستوعر خشونة الثياب ولكن عليا عليه السلام كان يقول والله لو شئت لاهتديت الطريق إلى نسائج هذا القز، وكان يذهب إلى سوق البزازين فيبحث عن بائع لا يعرفه ليشتري ثوبين له ولخادمه فيعطي أفضلهما إلى قنبر مولاه لأنه شاب وله شره الشباب حسب تعبيره عليه السلام
وأما علي عليه السلام كان خشنا في ذات الله أو أخشين كما عبر عنه النبي صلى الله عليه وآله والمترفون يستصعبون القتال في سبيل الله وهو الذي شارك في كل غزوات النبي صلى الله عليه وآله وعاد من أحد الغزوات مثخنا بالجراح ومع ذلك يأتي أحدهم ليقول أن أشجع الناس فلان وفلان من الناس للأسف الشديد
وإن عليا عليه السلام هو على رأس من عناهم بقوله أَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ وحقيقة الأمر أن الجهال يستوحشون من الليل فيحاولون أن يحيوا الليل بصنوف اللهو واللعب ولكن أنظر كيف يصف ضرار عليا عليه السلام عندما طلب منه معاوية ذلك :
(وَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَ قَدْ أَرْخَى اَللَّيْلُ سُدُولَهُ وَ غَارَتْ نُجُومُهُ وَ هُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ اَلسَّلِيمِ وَ يَبْكِي بُكَاءَ اَلْحَزِينِ فَكَأَنِّي اَلْآنَ أَسْمَعُهُ وَ هُوَ يَقُولُ يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيَّ تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ قَدْ بَتَتُّكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا فَعُمُرُكِ قَصِيرٌ وَ خَطَرُكِ يَسِيرٌ وَ أَمَلُكِ حَقِيرٌ آهِ آهِ مِنْ قِلَّةِ اَلزَّادِ وَ بُعْدِ اَلسَّفَرِ وَ وَحْشَةِ اَلطَّرِيقِ وَ عِظَمِ اَلْمَوْرِدِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسَهُ قَدْ خَرَجَتْ فَوَكَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ)