أولئك يؤتون أجرهم مرتين – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
يُعدّ قول الله تعالى: (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
من أعظم الآيات التي تكشف عن عدل الله تعالى وفضله على عباده الذين جمعوا بين إيمانين، وصدقين، وصبرين؛ فآمنوا بالرسالات السابقة، ثم صدّقوا برسالة الخاتم محمد صلى الله عليه وآله، فكان جزاؤهم مضاعفًا عند الله عز وجل.
من هم الذين يؤتون أجرهم مرتين؟
عندما عاد المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة المنورة، كان معهم اثنان من أهل الحبشة قد أسلما بعد أن آمنوا بعيسى عليه السلام من قبل.
فنزلت الآية الكريمة مبشّرةً بأن هؤلاء الذين جمعوا بين الإيمانين، إيمانهم بالرسالات السابقة، وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وآله، يُؤتون أجرهم مرتين:
مرة على تصديقهم بالأنبياء السابقين وكتبهم الإلهية.
ومرة على تجديدهم الإيمان بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وتكميلهم لمسيرة التوحيد.
الإسلام بين النسخ والتكميل:
يطرح بعضهم سؤالًا جوهريًا: هل جاء الإسلام لينسخ الشرائع السابقة كلها، أم ليكملها؟
الجواب أن الإسلام ليس دين إلغاء، بل دين إتمام وتكميل، كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).
فقد أبقى الإسلام على كثير من التشريعات التي كانت صالحة لكل زمان ومكان، ونسخ ما انتهت مصلحته، ووضع أحكامًا جديدة لما لم يكن له تشريع سابق.
بهذا المعنى، لم يكن الإسلام قطيعة مع الماضي الديني، بل هو امتداد لنور النبوّات السابقة في صورته الأكمل.
التفسير الاجتماعي للآية: العتق والزواج من الجواري:
ورد في بعض التفاسير أن قوله تعالى (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ) يشمل أيضًا فئة من المؤمنين الذين أعتقوا إماءهم ثم تزوجوهن أو زوّجوهن.
وهذا التشريع له أبعاد إنسانية عميقة أرادها الإسلام:
إزالة الفوارق العرقية بين العرب والشعوب الأخرى كالفرس والروم من خلال المصاهرة.
تحقيق التكافل الاجتماعي وإعادة الاعتبار للإنسان بعد العبودية.
الحدّ من ظاهرة الرق تدريجيًا وصولًا إلى القضاء عليها بالرحمة لا بالعنف.
تحقيق النقاء الوراثي والاجتماعي من خلال التباعد النسبي في الزواج.
ولذلك فإن من جمع بين ثواب العتق وثواب الزواج نال أجره مرتين، مصداقًا لوعد الله الكريم.
البعد التربوي والروحي في قوله تعالى: (بِمَا صَبَرُوا):
لم يكن مضاعفة الأجر ناتجة عن الإيمان وحده، بل عن الصبر في طريق الإيمان؛ صبر على الغربة، وصبر على الشهوة، وصبر على الطاعة، وصبر على الدعوة.
فمن صبر على البلاء وثبت على الإيمان في زمن الفتن، استحقّ أجر الإيمان مرتين وأجر الصبر أضعافًا.
أثر الإيمان المتجدد في حياة المؤمن:
الإيمان الحقيقي ليس حدثًا لحظة النطق بالشهادتين، بل هو رحلة مستمرة من التجدد والتزكية.
فكلما جدّد المؤمن علاقته بالله تعالى، واستحضر نياته، وسعى للإصلاح، كُتب له أجرٌ جديد.
وهكذا يتضاعف الأجر مرات بعد مرات، لأنّ الفضل الإلهي لا يُحدّ بعدد ولا بزمن.
الخلاصة:
الآية الكريمة ترسم منهجًا ربّانيًا في تقييم الإيمان؛ فليس الثواب بعدد الأعمال فحسب، بل بصدق النية وامتداد الإيمان عبر الأزمنة.
فالمؤمن الذي يحيا رسالات الله جميعًا في قلبه ويصبر على طريق الحق، هو الذي يُؤتَى أجره مرتين، بل مرات كثيرة برحمة الله الواسعة.