فلا أقسم بما تبصرون – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).
تأتي هذه الآيات من سورة الحاقة لتؤكد أن القرآن الكريم وحيٌ إلهيٌّ نزل على رسول كريم، وأن ما يراه الناس أو لا يرونه من مخلوقات الله جميعًا دليل على صدق الرسالة وعظمة الخالق. كما تردّ الآية على المشكّكين من قريش الذين اتهموا النبي صلى الله عليه وآله بأبشع التهم دون أن يقدروا على تكذيب جوهر دعوته أو نقاء تعاليمه.
خلفية الآيات: تكذيب قريش للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله:
لم تدخر قريش وسعًا في محاربة دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، فقد قالوا عنه: إنه ساحر يفكك المجتمعات، أو كاهن يتكلم بغير وحي، أو مجنون جاء بخرافات.
لكنهم عجزوا عن الطعن في جوهر رسالته، لأنها كانت تدعو إلى الفضيلة والعدل والتوحيد، وهو ما كان يصطدم بمصالح كبار قريش الذين بنوا ثرواتهم على الظلم والربا والفجور.
فالآية تأتي لتدحض هذه التهم، وتؤكد أن ما جاء به النبي قولٌ حقٌّ من عند الله، لا شعر فيه ولا كهانة، بل وحي نزل به رسول كريم.
معنى قوله تعالى: “فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ”:
القسم في القرآن ليس على سبيل الشك، بل هو توكيد وتعظيم للمقسم به.
وعندما يقول الله: “فلا أُقسم بما تبصرون وما لا تبصرون” فهو يدعو الإنسان إلى:
التأمل في عالم الشهادة (ما نراه من مظاهر الكون والحياة).
والتفكر في عالم الغيب (ما لا نراه من الأرواح والملائكة والحقائق الخفية).
فالله تعالى يذكّرنا أن ما تبصره أعيننا هو جزء يسير من الوجود، وأن هناك عالمًا واسعًا لا تدركه الأبصار ولا يحيط به العلم الحديث مهما تقدّم.
حدود البصر والعقل في فهم الوجود:
الآية الكريمة لا تتحدث فقط عن ضعف البصر، بل عن حدود الإدراك العقلي أيضًا.
فالعين ترى ما هو مادي، والعقل يدرك ما هو معقول، لكن:
هل نرى العقل نفسه أو الذاكرة أو الروح؟
هل يستطيع العلم تفسير ماهيّة الروح أو سرّ الحياة؟
الجواب: لا.
وهنا تتجلّى عظمة الخالق الذي جعل في الإنسان قدرات محدودة ليبقى في دائرة العبودية والخضوع له.
ولهذا قال العلماء: إن لله في كل شيء سرًّا لا تدركه الأبصار ولا العقول، بل تُؤمن به القلوب.
التسليم لله فوق حدود العقل:
كثير من العبادات في الإسلام تعبدية خالصة، لا يمكن للعقل الإنساني أن يدرك علتها كاملة، مثل:
عدد ركعات الصلاة.
تفاصيل مناسك الحج.
أوقات العبادات وكيفية أدائها.
فالإيمان الحق لا يتطلب إدراك كل العلل، بل يتطلب التسليم لله والثقة بحكمته، لأن الله يعلم ما لا نعلم، ويرى ما لا نرى.
خلاصة الكلام
إن قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ) هو تذكير للإنسان بحدوده أمام عظمة الله.
فما يراه الإنسان بعينيه جزء صغير من ملك الله الواسع، وما يعجز عن رؤيته هو أعظم دليل على وجود خالق حكيم عليم.
ومن أدرك هذه الحقيقة، سلّم قلبه لله، وآمن بأن القرآن كلام الله الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

