تحريم التبني في الإسلام – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
قال تعالى في محكم كتابه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[سورة الأحزاب، الآية 5]
سبب نزول الآية وتحريم التبني في الإسلام:
نزلت هذه الآية الكريمة في سياق حادثة زيد بن حارثة، الذي تبناه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بعد أن رفض العودة مع والده الحقيقي حين جاء يطلبه في المدينة المنوّرة. فأعلن النبي صلى الله عليه وآله أمام الناس أن زيدًا ابنه يرثه ويُرث منه، فأنزل الله تعالى الآية لتحريم نظام التبني الذي كان سائدًا في الجاهلية، مؤكدًا أن النسب لا ينعقد إلا من جهة الآباء الحقيقيين.
وهكذا وضعت الآية أساسًا تشريعيًا يميز بين الرحمة والرعاية من جهة، والنسب الشرعي من جهة أخرى، فالتربية لا تستلزم التبني، والرعاية لا تعني محو الهوية النسبية للأبناء.
المعنى العميق لقوله تعالى: “ادعوهم لآبائهم”:
ليست الآية نفيًا لدور الأم أو تقليلاً من شأنها، كما ظن بعض المفسرين الذين قالوا إن الأم مجرد وعاء، بل العكس تمامًا.
الإسلام كرّم الأم تكريمًا فريدًا، وجعل طاعتها مقدّمة على طاعة الأب في غير معصية الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله: “أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك.”
فإذا تزاحم أمر الوالدين، وكانت طاعة الأم لا تتعارض مع أمر الله، قدّمت طاعتها على غيرها، لما لها من مكانة سامية في منظومة القيم الإسلامية.
البعد الاجتماعي والإنساني في الآية:
يُفهم من قوله تعالى: “ادعوهم لآبائهم” أيضًا تحريم عادة جاهلية كان العرب يمارسونها، إذ كانوا ينادون الشخص باسم أمه إذا أرادوا تحقيره أو التقليل من شأنه، فيقولون: يا ابن فلانة!
وقد نهى الإسلام عن ذلك لأنّه يجرح الكرامة الإنسانية ويزرع البغضاء بين الناس.
لكن إن كان النداء باسم الأم بقصد التعظيم والتبجيل، كقولنا: يا ابن الزهراء، فهو أمر محمود، لأن المقصود منه إظهار الشرف والفضل لا الانتقاص.
رسالة الإسلام في بناء مجتمع الاحترام والمودة:
إن جوهر هذه الآية هو ترسيخ قيم الاحترام المتبادل داخل المجتمع الإسلامي. فالله تعالى يريد للمؤمنين أن يعيشوا في بيئة يسودها الحب والاحترام، لأنّ التفكك الاجتماعي يبدأ حين تُهان الكرامات وتُسلب الهويات.
الاحترام بين أفراد المجتمع هو الأساس الذي يقوم عليه الاستقرار الأسري والاجتماعي، وبدونه تتحول المجتمعات إلى كيانات متنازعة تنهار أمام أول امتحان أخلاقي أو فكري.
خاتمة الكلام:
تأتي آية “ادعوهم لآبائهم” لتؤسس مبدأ العدالة الاجتماعية والصدق في الانتساب، وتغرس في القلوب احترام الروابط الإنسانية الحقيقية.
فمنهج الإسلام لا يقوم على الشكليات أو الأعراف الجاهلية، بل على الحق والإنصاف والتكريم الإلهي للإنسان.
وبهذا تكون الآية دعوة لتصحيح النسب، وصيانة الكرامة، وبناء مجتمع يسوده العدل والرحمة.

