الإمامة نص أم شورى؟ – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
إنّ قضية الإمامة تعدّ من أعمق القضايا العقدية التي انقسم حولها المسلمون بعد رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فهي الأساس الذي يُبنى عليه نظام الأمة ووحدة القيادة فيها. والسؤال الجوهري الذي دار منذ الصدر الأول للإسلام هو:
هل الإمامة نصٌّ إلهي بتعيين من الله كما كانت النبوة، أم هي شورى بين المسلمين يختارون فيها من يرونه أصلح؟
يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾
لتؤكد هذه الآية أن الاختيار الإلهي أصل في قيادة الأنبياء، ومن هذا الأصل ينبثق مبدأ الإمامة في فكر مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
ضرورة القيادة في نظام الوجود:
إن كل نظام في الوجود — صغيرًا كان أو كبيرًا — يحتاج إلى قيادةٍ عاقلةٍ منظِّمة:
فالجسد يحتاج إلى العقل الذي يدير حركته ويضبط أفعاله، وإلا ساد الاضطراب في أعضائه.
والأسرة تحتاج إلى ربٍّ يقودها بحكمة حتى تستقيم أمورها، وإلا تفكك كيانها وضاعت هيبتها.
وكذلك المجتمع والدولة، فإنّهما لا يستقيمان إلا بوجود حاكمٍ عادلٍ يضبط القوانين ويمنع الفوضى والجريمة، ويضمن الأمن والاستقرار.
ولهذا كان الدين أول من أسّس لفكرة القيادة الإلهية، وجعلها محور الإصلاح والهداية.
اتفاق المسلمين على مبدأ القيادة:
اتفق المسلمون جميعًا على أنّ الأنبياء هم أولى الناس بقيادة أقوامهم، لأنهم الأعلم والأتقى والأصلح، وقيادتهم إنما تكون بتعيينٍ من الله تعالى لا باختيار الناس.
لكن بعد رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله اختلفت الأمة في منهج تعيين الإمام أو الخليفة من بعده:
فريق قال بالشورى والإجماع بين أهل الحل والعقد.
وفريق آخر قال بالنص الإلهي، وأنّ الإمامة — كالنبوّة — لا تكون إلا بجعلٍ من الله تعالى العالِم بمصالح عباده.
الأدلة على النص الإلهي في الإمامة:
وردت في الحديث النبوي الشريف نصوصٌ كثيرة تُثبت أن الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت بتعيينٍ إلهي، وأنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام هو الخليفة المنصوص عليه، وهذه الأحاديث بلغت حدّ التواتر.
حديث الدار:
حين نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾
جمع النبي صلى الله عليه وآله بني عبد المطلب وقال لهم في حديثٍ مطوّل:
(يا بني عبد المطلب، إنّي قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟)
فأحجم القوم جميعًا، فقال عليٌّ عليه السلام — وكان أحدثهم سنًّا —:
(أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه)
فأخذ النبي صلى الله عليه وآله برقبته وقال:
(إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا).
وهذا النصّ الصريح كان أول إعلان لخلافة الإمام علي عليه السلام منذ فجر الدعوة.
شواهد أخرى على إمامته عليه السلام:
لم يقتصر النصّ على حديث الدار، بل أكّد النبي صلى الله عليه وآله في مواقف متعددة على خلافة علي عليه السلام:
عندما أباته في فراشه ليلة الهجرة ليحميه من بطش قريش.
عندما وكلّه بأداء الأمانات قبل هجرته إلى المدينة.
وعندما قال له في حديث المنزلة المشهور:
(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
حتى جاءت واقعة غدير خم التي أعلن فيها النبي صراحةً إمامة علي عليه السلام وأخذ من الناس البيعة له، وقد روتها المصادر الإسلامية من مختلف المذاهب بتواترٍ قاطع.
الإمامة اختيارٌ إلهي
إنّ التأمل في النصوص القرآنية والحديثية يقود إلى نتيجة واضحة:
أن الإمامة ليست شأنًا بشريًا يخضع للاجتهاد أو الشورى، بل هي نصٌّ وتعيينٌ من الله تعالى كما قال سبحانه:
﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾
فالله وحده هو الذي يعلم من يصلح لقيادة الأمة ويهديها بالحق، لأن القيادة الإلهية استمرار للنبوة في الهداية والتبليغ، لا في التشريع والوحي.
البعد الروحي والعقائدي للإيمان بالنص الإلهي:
الإيمان بأن الإمامة نصٌّ من الله تعالى يعزّز روح الطاعة لله ورسوله وأوليائه، ويمنح الأمة وحدة الصف والمرجعية. أما حصر القيادة في الشورى البشرية دون ضوابط إلهية فقد أدى — كما يشهد التاريخ — إلى الانقسام والفتن.
فمن يوقن أن الإمام منصوب من الله يسير خلفه بثقةٍ وخضوع، لأنه يرى فيه الامتداد الشرعي للنبي، ومرآة للعدل الإلهي في الأرض.
خاتمة:
الإمامة في جوهرها امتداد للنبوة، ومبدأ النصّ فيها هو الذي يحفظ وحدة الدين ويضمن استمرار الهداية الإلهية في الأمة. أما القول بالشورى فقد أدّى إلى اختلافٍ وتنازعٍ طالما حذّر منه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
فالحقّ أن الإمامة نصٌّ من الله تعالى، وأنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الخليفة المنصوص عليه بنصٍّ نبويٍّ صريحٍ لا لبس فيه.

