لماذا نزل القرآن باللغة العربية؟ – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
إنَّ اختيار الله تعالى للغةٍ معيَّنةٍ لتنـزل بها آخر كتبه السماوية ليس أمرًا عابرًا، بل هو اختيارٌ قائمٌ على الحكمة الإلهية البالغة، والغاية الربانية العظمى في إيصال رسالته إلى البشرية جمعاء. وقد جاء البيان الإلهي واضحًا في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾
أي أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن بلغةٍ يسيرةٍ على لسان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ليكون حجةً بالغة، وبشارةً ونذارةً في آنٍ واحد.
اللغة العربية وعاء البيان الإلهي:
أنزل الله تعالى القرآن باللغة العربية لما تمتاز به من خصائص فريدة، جعلتها أوسع اللغات بيانًا وأقدرها على حمل المعاني الدقيقة. فهي لغة غنية بالمفردات، قوية في تراكيبها، مرنة في تعبيرها، تمتلك قدرة إعجازية على تصوير المعاني المجردة بألفاظ موجزة، وتفتح المجال أمام البلاغة والبيان والمجاز والاستعارة لتجسيد المعنى بأبهى صوره.
وقد أراد الله جل جلاله أن تكون رسالته الأخيرة باللسان الذي يفهمه القوم الذين أُرسل إليهم النبي أولاً، حتى لا تكون لهم حجة بأن الوحي جاء بلغةٍ غريبةٍ عنهم، فقال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾.
التيسير في الفهم والوصول إلى المقصود:
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾ يعني أن الله تعالى جعل القرآن ميسَّرًا في لغته ومعانيه، قريبًا من قلوب الناس، بحيث يستطيع العربي أن يتذوق إعجازه البلاغي، ويدرك عمق معانيه دون مشقةٍ في اللفظ أو ضعفٍ في البيان.
فقد كان العرب في زمن الرسالة يتفاعلون مع القرآن لحظة سماعه، تهتز قلوبهم وتدمع عيونهم من روعة نظمه وقوة حجته. وإن أشكل على بعضهم معنى، كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وآله مباشرة فيوضح لهم، ثم من بعده كان أئمة الهدى عليهم السلام يفسرون ما غمض من معانيه ويكشفون أسراره الباطنة.
الحاجة إلى الاجتهاد بعد غياب المعصوم:
لم يكن الناس في عصر النبي والأئمة عليهم السلام بحاجةٍ إلى الاجتهاد لفهم النصوص، إذ كان المصدر المعصوم حاضرًا بينهم، يبين مراد الله تعالى من كل حكم.
لكن بعد غياب الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف، وابتعاد الأمة عن عصر النص، ومع دخول أممٍ وشعوبٍ جديدة إلى الإسلام أدخلت ألفاظًا دخيلة على العربية، أصبحت الحاجة ملحة إلى الاجتهاد لفهم النصوص واستنباط الأحكام الشرعية منها.
ومن هنا، نشأت علوم اللغة والفقه والأصول والحديث والتفسير، وصار لزامًا على طالب العلم أن يتقن قواعد اللغة العربية، ويدرس علم الأصول والفقه والبلاغة والتفسير ليكون مؤهلاً للوصول إلى مرتبة الاجتهاد واستخراج الحكم الشرعي من النص القرآني مباشرة، كما أراد الله تعالى.
عالمية الرسالة رغم خصوصية اللغة:
قد يتساءل البعض: إذا كان القرآن نزل بالعربية، فهل يختص بالعرب؟
والجواب: كلا، فالعربية كانت الوعاء، أما الرسالة فكانت عالمية خالدة. واللغة العربية بما تمتلكه من سعةٍ ومرونةٍ وقدرةٍ على الترجمة الدقيقة، جعلت القرآن كتابًا صالحًا لكل زمان ومكان. وما دام الإسلام دين الفطرة، فقد كان لا بد أن تكون لغته قادرة على مخاطبة العقول والقلوب في كل العصور.
خاتمة: سر الخلود في لسان العرب:
لقد كان نزول القرآن الكريم باللغة العربية تشريفًا لهذه اللغة، ورفعًا لمكانتها بين لغات الأرض. فهي لغة الوحي والعبادة والخلود، ولغة الجنة كما ورد في بعض الروايات، وبها خوطب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في كلام ربه.
فمن أراد فهم كتاب الله على وجهه الصحيح، فليتعلم لغة القرآن، وليغص في بحرها العميق، فإنّ مفاتيح الهداية الإلهية كامنة في حروفها وآياتها.

