الإجارة وحماية الغير في القرآن – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
يقول تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ﴾ سورة التوبة الآية 6
لقد شكّلت الآية الكريمة من مظهراً من أسمى مظاهر الإنسانية في الإسلام، حيث ترفع مبدأ الرحمة والأمان فوق حدود الانتماء الديني والسياسي. ففي زمنٍ كان الحروب فيه تقوم على القتل والسبي والانتقام، يأتي الإسلام ليقول للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله:
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ… ﴾
أي إن طلب منك الأمان عدوٌّ مشرك، فلا ترده، بل آوه واحمه، حتى يسمع كلام الله ويفهم دعوة الحق، ثم أبلغه مأمنه.
إنها دعوة إلى القيم العليا التي لا تعرف الانتقام، بل تبني الإنسان بالحجة والرحمة، لا بالسيف والبطش.
أقوال العلماء في أسباب نزول الآية الكريمة:
ذكر المفسرون من الشيعة والسنة أقوالاً متعددة في سبب نزول هذه الآية، وأهمها ما يلي:
قول العلامة الطبرسي في “مجمع البيان”:
نزلت الآية في جماعة من المشركين أرادوا سماع القرآن من رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن أُمر بقتالهم، فأذن الله له أن يجير من يطلب الأمان منهم حتى يسمع كلام الله، فإن أسلم فبها، وإن لم يسلم أبلغه مأمنه.
وفي “الميزان” للعلامة الطباطبائي:
بيّن أن الآية تؤكد أن قتال المشركين لا يلغي إنسانيتهم، وأن الدعوة قائمة على البيان أولاً، فحتى العدوّ إذا استجار برسول الله يُؤمَّن له، لأن الهدف من الرسالة هو الهداية لا الانتقام.
وفي “تفسير القمي” و”نور الثقلين”:
ورد أن الآية تشير إلى أن الله تعالى جعل لنبيه حق الأمان للمشركين، كما جعل للأئمة من بعده مقام الرحمة والحماية لمن لجأ إليهم، فهم الامتداد الواقعي لرحمة النبي في الأمة.
ترسيخ الإسلام لمبدأ إجارة وحماية الغير:
هذه الآية تمثّل قاعدة فقهية وإنسانية اسمها حق الإجارة.
فالإسلام لا يرى في العدو مجرد “خصم” يجب القضاء عليه، بل يراه إنساناً جاهلاً يحتاج إلى بيان. لذا جاء التعبير الإلهي دقيقاً:
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾
أي إن جهلهم هو سبب عداوتهم، فدواؤهم ليس السيف بل العلم والبيان.
وقد طبّق النبي صلى الله عليه وآله هذا المبدأ عملياً في سيرته، فكان يمنح الأمان لمن لجأ إليه حتى من ألدّ أعدائه.
منهج أهل البيت عليهم السلام في حماية المستجيرين:
لقد جسّد أئمة أهل البيت عليهم السلام هذا المبدأ الإلهي بأبهى صوره.
فالإجارة في فكرهم ليست عقداً فقهياً فقط، بل هي موقف أخلاقي وروحي.
يروى عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: (إنا لا نبدأ بالحرب من لم يقاتلنا، ولا نمنع من لجأ إلينا).
وهذا المنهج تجسّد في مواقف عديدة، منها إيواء المظلوم، ونصرة الضعيف، وعدم ردّ المستجير مهما كان دينه أو نسبه.
حتى في كربلاء، حين دخل الحُرّ بن يزيد الرياحي مستجيراً بالإمام الحسين عليه السلام نادماً على ما صنع، لم يرده الإمام رغم أنه أحد الذين حاصروه، بل قال له:
(لقد غفر الله لك، أنت حرّ كما سمّتك أمك).
فجعل من الرحمة باباً للكرامة الإلهية.
أدلة مشروعية التوسل بالأولياء وأهل البيت عليهم السلام:
من روح هذه الآية نستشف معنى آخر أعمق: أن من استجار برسول الله صلى الله عليه وآله نال الأمان، فكيف بمن استجار بأوليائه الذين هم باب الله الذي منه يؤتى؟
وقد روى الشيخ الصدوق في كمال الدين عن الإمام الباقر عليه السلام: (نحن باب الله الذي يؤتى منه، بنا يهتدي المهتدون).
فالإجارة الروحية من رسول الله وأهل بيته تمثل صورة أسمى من الإجارة المكانية، لأنهم ملاذ من الخوف والضلال، ووسيلة إلى رضوان الله تعالى.
وهذا أصل مشروعية التوسل بالأولياء، لأنهم وسائط الرحمة الإلهية، كما قال تعالى: ﴿وابتغوا إليه الوسيلة﴾ (المائدة: 35).
قصة مسلم بن عقيل مع طوعة حتى شهادته عليه السلام:
من أجمل ما يجسد معنى الإجارة في الإسلام، ما جرى مع مسلم بن عقيل، سفير الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة.
بعد خذلان الناس له وتفرقهم عنه، طارده جنود ابن زياد حتى التجأ إلى بيت امرأة تُدعى طوعة.
طرَق بابها ليلاً وقال:
يا أمة الله، هل لي بماء؟ فجاءته بالماء، فلما شرب نظر إلى الأرض حزيناً، فقالت له: ما شأنك يا عبد الله؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، ضيفك الليلة.
فقالت: أهلاً بك، والله لَشرفٌ لي أن تكون ضيفي.
آوته وأخفته رغم علمها بخطورة الموقف، فكانت نموذجاً لامرأة مؤمنة لم تفرّق بين غريبٍ أو قريب، بل آوت مستجيراً في سبيل الله.
لكن سرعان ما وشى بها ابنها إلى ابن زياد، فاقتحموا البيت، وقاتلهم مسلم بن عقيل حتى أُخذ أسيراً بعد جراحٍ كثيرة.
فلما أُصعد إلى قصر الإمارة، رفع رأسه إلى السماء وقال:
(اللهم احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وكذبونا وخذلونا).
ثم استُشهد مظلوماً، فخلّد التاريخ قصته مثالاً لإجارة المظلوم وحفظ العهد حتى آخر لحظة.
وفي الختام:
الآية الكريمة ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ… ﴾ ليست مجرد توجيه تشريعي، بل مدرسة أخلاقية كبرى ترسّخ في وجدان المسلم أن الرحمة مقدَّمة على العنف، وأن الدعوة تبدأ بالأمان قبل البيان.
وقد سار أهل البيت عليهم السلام على هذا النهج، فكانوا ملاذ المستجيرين وملجأ الخائفين، وهم وسيلة الأمان في الدنيا والآخرة.
فمن لجأ إلى الله عبرهم فقد استجار بمأمن الحق، ومن تمسك بولائهم فقد نال أعظم إجارةٍ عند الله.

