حث الإسلام على العمل – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾
سبب نزول الآية ودلالتها:
نزلت هذه الآية الشريفة – كما ورد في التفاسير – في أحد رجلين من كبار مشركي قريش، إما العاص بن وائل أو الوليد بن المغيرة، وذلك في قصتهما مع الصحابي الجليل الخباب بن الأرت رضي الله عنه.
كان الخباب يعمل في مهنة الصياغة، وقد صنع لأحدهما حُليًّا، فلما طالبه بأجره طلب منه تأجيل الدفع، فأبى الخباب إلا أن يأخذ حقه في الحال. فسأله عن سبب تشدده، فأجابه الخباب أنه آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وخرج من دينهم. عندها قال له المشرك: لا أعطيك أجرك حتى تكفر بمحمد. فأجابه الخباب بثبات الإيمان: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تُبعث. فقال المشرك متبجحًا: إذا متّ وبُعثت فسيكون لي مال وولد، وحينها أعطيك حقك.
فنزلت هذه الآيات لتفضح هذا الادعاء الفارغ، وتُبيّن أن المال والولد ليسا دليل رضى الله، ولا نتيجة استحقاق ذاتي.
العمل في سيرة النبي وأهل بيته عليهم السلام:
من يتأمل في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وسيرة أهل بيته الأطهار وأصحابه الصالحين، يجد أن العمل كان جزءًا أصيلاً من حياتهم، ولم يكن الكسب الحلال عيبًا أو نقصًا في المقام الإيماني.
فالصحابي الخباب بن الأرت كان صائغًا، وغيرُه عملوا في التجارة والزراعة والرعي، بل إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان يعمل بيده ويستخرج الآبار ويغرس النخيل. وهذا يؤكد أن الإسلام لا يربط الكرامة بالكسل أو التواكل، بل بالعمل الشريف المقرون بالإيمان.
موقف الإسلام من العمل اليدوي والفكري:
قبل الإسلام، كان العرب يحتقرون العمل اليدوي، ويعدّونه منقصة اجتماعية، ويعتمدون في كثير من موارد رزقهم على الغزو والسلب. وكذلك فعلت بعض الحضارات القديمة، كالرومان، الذين عظّموا العمل الفكري وازدروا العمل المهني.
وفي العصر الحديث، ظهرت تيارات كالماركسية الشيوعية، فقلبت المعادلة، فعظّمت العمل اليدوي واحتقرت العمل الفكري، واعتبرت أن العامل والفلاح وحدهما منتجان، بينما الأستاذ والمفكر غير منتجين.
أما الإسلام، فقد جاء بمنهج متوازن وعادل، فاحترم كل عمل نافع: العمل اليدوي محترم لأنه يسدّ حاجة المجتمع، والعمل الفكري محترم لأنه يصنع العقول التي تقود المجتمع.
فالأستاذ هو الذي يُخرّج الطبيب والمهندس والعامل والفلاح، ولا تعارض بين النوعين، بل تكامل.
الثروة المشروعة والثروة غير المشروعة:
أكد الإسلام أن الثروة المشروعة هي التي تُكتسب عن طريق عمل مشروع، سواء كان تجارة أو صناعة أو مهنة.
أما الثروة غير المشروعة فهي كل مال يُؤخذ بغير حق: كالسرقة، والاحتيال، والرشوة، والغصب، وسلب أموال الناس دون رضاهم.
ولهذا لم يمدح القرآن المال لذاته، ولم يذمّه لذاته، بل مدح طريقة تحصيله، وجعل العمل أساس الملكية المشروعة.
المال والولد زينة لا غاية:
ركز القرآن الكريم في هذه الآيات وفي غيرها على المال والولد، لأنهما – كما قال تعالى –: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
فالإنسان إن كان له مال بلا ولد، شعر بنقص الامتداد والخلود، وإن كان له ولد بلا مال، عاش همّ تأمين مستقبلهم.
ولهذا كان الدافع الأكبر للسعي والعمل عند الإنسان هو ضمان حياة كريمة للأبناء، لكن الخطأ يكمن حين يُظن أن المال والولد دليل فضل عند الله، أو علامة رضا إلهي مطلق.
معنى الكفر بالآيات والتطلع إلى الغيب:
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ المراد بالآيات هنا الأدلة الواضحة على البعث والحساب، فالكفر بها ليس مجرد إنكار لفظي، بل استكبار عن قبول الحق.
أما قوله: ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾، فهو استفهام إنكاري، أي: هل اطّلع هذا الإنسان على الغيب حتى يجزم بأن له مالًا وولدًا في الآخرة؟!
فالغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا يطلع عليه نبيًا أو وليًا إلا بإذنه وحكمته، وليس استقلالًا منهم بالعلم.
وفي الختام:
العمل عبادة إذا اقترن بالإيمان، فالإسلام لا يفصل بين الدين والعمل، بل يجعل العمل عبادة إذا كان خالصًا وحلالًا ومقرونًا بالنية الصالحة.
فاليد العاملة التي تكسب بالحلال، أكرم عند الله من يدٍ تمتد إلى الحرام، ولو تزيّنت بألف شعار.
وبذلك يقدّم الإسلام نموذجًا متوازنًا: إيمانٌ واعٍ، وعملٌ نافع، وثروةٌ مشروعة، ومجتمعٌ قائم على العدل والكرامة الإنسانية.

