حقيقة متاع الحياة الدنيا – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
قال الله تعالى: ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾
تعبر هذه الآية الكريمة عن حقيقة العطاء في الحياة الدنيا، حيث وصفه القرآن بالمتاع، وهو توصيف يحمل دلالة عميقة تتجاوز الظاهر المادي للحياة، لتكشف حقيقتها المؤقتة ومآلها الحتمي.
معنى المتاع في اللغة والقرآن:
المتاع في اللغة هو زاد المسافر في سفره، أي ما يُستعمل مؤقتًا ثم يُترك عند انتهاء الرحلة.
ومن هنا يلفت القرآن أنظارنا إلى أن ما يجنيه الإنسان في الدنيا ليس ملكًا دائمًا، بل هو: إما متاع يُستهلك في مسيرة الحياة ثم يزول، أو زادٌ يُدّخر للآخرة فيبقى أثره وخلوده.
وكأن القرآن يضع الإنسان أمام سؤال مصيري: هل تجعل متاعك للدنيا فقط، أم تحمله معك إلى الآخرة؟
الناس بين فناء الذكر وخلوده:
ينقسم الناس في هذه الدنيا إلى قسمين واضحين:
القسم الأول: وهو الغالب، ممن لا يجعل لآخرته نصيبًا من عمله، فيعيش لنفسه وشهواته، فإذا مات: مات ذكره، وانقطع أثره، وزال حضوره المعنوي
القسم الثاني: وهم الذين جعلوا من الدنيا جسرًا للآخرة، فكلما تزودوا منها صالح الأعمال: خلُد ذكرهم، وبقي أثرهم في العالمين.
وهذا هو سر خلود ذكر النبي الأكرم وأهل بيته عليهم السلام، إذ أفنوا حياتهم لله تعالى، فبقي نورهم ممتدًا عبر القرون، وسيبقى ما بقي الحق.
لفتة أخلاقية: لا تتكالبوا على متاع الدنيا
تحمل الآية الكريمة تحذيرًا أخلاقيًا عظيمًا، مفاده أن: طول العمر لا يعني الخلود، كثرة المتاع لا تعني النجاة، فمن أكل أموال الناس بالباطل، أو ظلم غيره، أو منع الحقوق، قد يتمتع زمنًا قصيرًا، لكنه يوم الحساب سيجد ما أكله جمراً يحرقه، لا متاعًا ينعمه.
القيم الإلهية أساس المجتمعات:
تؤكد هذه الرؤية القرآنية أن أي مجتمع: لا يُحكم بالقيم الأخلاقية الإلهية، ولا يحتكم إلى العدل والحق، وسيتحول بالضرورة إلى غابة، يحكمها القوي ويُسحق فيها الضعيف.
ومن أبلغ ما قيل في هذا المعنى، قول الإمام موسى الكاظم عليه السلام في رسالته إلى هارون العباسي:
(إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقضي جميعًا إلى يومٍ ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون).
وهي كلمة تختصر حقيقة الدنيا والآخرة معًا.
الاستدراج الإلهي وطول الأمل:
تشير الآية إلى أن الله تعالى متّع أولئك، وأطال أعمارهم لا إكرامًا لهم، بل استدراجًا، لعلهم يرجعون، أو يتزودون لآخرتهم
لكنهم حسبوا: كثرة المتاع، وطول العمر دليلًا على الخلود، فقست قلوبهم، وغفلوا عن أن الأرض تُنقَص من أطرافها، وأن الزمن يعمل ضدهم لا لصالحهم.
زيارة القبور وتربية الوعي الأخروي:
لهذا أكدت الروايات الشريفة على استحباب زيارة القبور، لا للحزن المجرد، بل لتربية الوعي، كي يتذكر الإنسان: أنه سيكون يومًا تحت التراب، كما أن من يزورهم اليوم كانوا يومًا فوقه، فيتزود ما استطاع لآخرته، قبل أن ينقطع العمل ويبقى الحساب.
خاتمة:
إن متاع الحياة الدنيا: ليس شرًا بذاته، لكنه خطر إذا ألهى، ونعمة إذا استُعمل زادًا للآخرة.
فطوبى لمن فهم حقيقتها، ولم يغتر بطول الأمل، وجعل من دنياه معبرًا لا مقرًا، ومن متاعها زادًا لا غاية.
مواضيع مشابهة:
حقيقة الزهد والتزهد
مفهوم الزهد

