إنكار البعث – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۗ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ۖ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الرعد: 5]
هذه الآية تُعبّر عن موقف عجيب من مواقف المكذبين بالبعث، حيث يسخرون من إمكانية أن يُبعثوا بعد أن يتحولوا ترابًا. وهذا الموقف مثار عجب حقيقي؛ لأن من أنكر الخلق الثاني وهو أهون عليه، فقد أنكر قدرة من خلقهم أول مرة من العدم!
بين الأمس واليوم: تناقض الموقف البشري
قبل البعثة النبوية، كان أهل مكة يُلقّبون النبي بالصادق الأمين، فلا يُعرف عنه كذب ولا خيانة، وكانوا يضعون عنده أماناتهم، ويثقون في أقواله وأحكامه. لكن ما إن صدع بدعوة التوحيد، حتى تغيرت نظرتهم، واتهموه بما لم يعرفوه عنه أبدًا: سحر، كهانة، كذب، شعر، جنون!
إنه التناقض بين ما يدركه الناس بعقولهم، وما ترفضه نفوسهم إذا تعارض مع أهوائهم ومصالحهم. فمشكلتهم لم تكن مع شخصه، بل مع دعوته التي جاءت لتقلب موازينهم.
عبادة الأصنام رغم الحجة
مع أن النبي أقام الحجج العقلية والبراهين الواضحة على بطلان عبادة الأصنام، إذ لا تنفع ولا تضر، فإنهم أصرّوا على عبادتها، وقالوا: ﴿نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ [الشعراء: 71]. وهذا الإصرار ليس جهلًا بالحقيقة، بل عنادًا وجحودًا، لأنها كانت مصدر نفوذهم وأموالهم.
وهذا السلوك ما زال يتكرر عبر العصور، حيث يرفض الناس الحق لا لجهلهم به، بل لأنه يهدد ما يحبونه من باطل أو سلطة أو تقاليد.
الشبهات المعاصرة: البداء نموذجًا
كما كذّبوا بالبعث، كذّبوا أيضًا بعقائد أهل البيت عليهم السلام، وشنعوا عليهم باتهامات باطلة كتحريف القرآن أو قذف الصحابة أو الجهل، خاصة حين يسمعون بمصطلح “البداء”. بينما المقصود بالبداء في عقيدة أهل البيت هو الإظهار بعد الإخفاء، لا العلم بعد الجهل، وهو ما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ [الرعد: 39].
فمثلاً: يُقدَّر لإنسان أن يعيش أربعين سنة، لكنه ببرّ والديه أو صدقاته أو أعماله الصالحة يمدّ الله في عمره. وهذا لا يخالف حكمة الله، بل يُظهر فضل الرحمة والتغيير في قدر الإنسان، وهو مما اتفقت عليه عموم المذاهب الإسلامية.
الإنكار العقلي للبعث
تفسير الآية يشير إلى عجبهم من دعوى البعث بعد الموت، إذ قالوا: “كيف نُبعث من تراب؟” وهذا جهل غريب، فالله الذي خلقهم من العدم، أليس بقادر على أن يُعيدهم من التراب؟!
فكما أن النجار يصنع بابًا من الخشب، فمن الغريب أن يُقال له: هل يمكنك أن تصنع بابًا آخر؟! والله تعالى له المثل الأعلى، خَلَق أول مرة، وهو على الإعادة أقدر.
خلود الروح
الموت لا يُعدم الإنسان، بل هو فاصل بين الجسد والروح. والأرواح لا تَفنَى، بل تبقى في عالم البرزخ، تعيش في درجات من النعيم أو العذاب، بحسب إيمانها وعملها. وأرواح المؤمنين ترفرف في عليين، وأرواح الأنبياء والأئمة الطاهرين في أشرف مقام، نلتمس من خلالها شفاعة ورحمة.
ولهذا نتوسل بهم إلى الله، ونزورهم محبةً لله ووفاءً لهم، لا لذواتهم بل لأن الله أمرنا باتباعهم وحبهم.
وفي الختام
إن الحق لا يُقاس بعدد أتباعه، بل بقوته الذاتية، وأن العناد في وجه الحقيقة يجر إلى الكفر والعذاب. وأن من يشكك في قدرة الله على البعث، فإنما يشك في أصل الإيمان.
كما تعلمنا أن المؤمن يجب أن يبني عقيدته على وعي، ويُفرّق بين الشبهة والحقيقة، ويغلب جانب الإنصاف على التبعية العمياء. وأن حب أولياء الله ليس بدعة، بل صراط إلى الله، إذا اقترن بالإخلاص والتوحيد.