أحوال الناس يوم الحساب – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [النحل: 111]
هذه الآية الكريمة ترسم مشهدًا رهيبًا من مشاهد يوم القيامة، حين يقف الإنسان في موقف عظيم لا يدافع فيه إلا عن نفسه، لا يلتفت لأقرب قريب، ولا يبحث إلا عن خلاصه من نار جهنم.
العقل والحساب الأخروي
حتى من دون الرجوع إلى النصوص الدينية، فإن العقل السليم يوقن بضرورة وجود يوم آخر يُحاسب فيه الإنسان على أعماله. فلو رأينا مهندسًا يبني قصرًا شامخًا ثم يهدمه من غير سبب، لعدّ ذلك تصرفًا عبثيًا. فكيف بخالق هذا الكون البديع، المحكم في كل صغيرة وكبيرة، يُفترض أن يخلقه بلا هدف ولا غاية، ثم ينهي حياة الإنسان إلى عدم مطلق؟
العقل لا يقبل أن تنتهي رحلة الإنسان بموته الجسدي فقط. لا بد من لقاء، من عدل، من حساب، من توفية لكل نفس بما عملت.
مشهد الحساب: كلٌّ يدافع عن نفسه
ورد في تفسير الآية أن “الجدال” هنا بمعنى الدفاع. وفي الدنيا نرى الإنسان يدافع عن أسرته وأهله وأقربائه، أما في ذلك اليوم، فإن كلّ نفس لا ترى أحدًا إلا خصمًا أو غريبًا، فهي لا تنشغل إلا بالنجاة من العذاب والفوز برحمة الله.
وتصور لنا بعض الروايات ذلك المشهد المهيب، حيث تزفر جهنم زفرة تُرعب كل المخلوقات، حتى الأنبياء يجثون على ركبهم، ويقول أحدهم: “يا رب، لا أسألك اليوم إلا نفسي”.
إنه موقف تظهر فيه حقيقة الإنسان، وتنهار فيه كل الارتباطات العاطفية والدنيوية، ولا يبقى إلا الحساب العادل.
تُوفّى” كل نفس.. ماذا عن الشفاعة؟
ربما يُثار سؤال هنا: إذا كانت كل نفس تُجزى بعملها توفيه بلا ظلم، فكيف نوفق هذا مع عقيدة الشفاعة، حيث يُخفف عن بعض الناس، أو يُغفر لهم بسبب شفاعة نبي أو ولي؟
الجواب: أن الآية تتحدث عن القانون العام، فـ”كل نفس تُوفى ما عملت” من حيث المبدأ، لكن هذا العموم في كثير من الأحيان يُقيَّد بنصوص أخرى، كما هو الشأن في كثير من عمومات القرآن الكريم.
فكما أن الله أمر بإيفاء العقود، ثم استثنى منها عقود الربا، فإن حساب الأعمال أيضًا قد يشمله استثناء مخصوص بالشفاعة.
والشفاعة ليست مخالفة للعدل، بل هي من مظاهر الرحمة الإلهية التي شمل الله بها عباده المؤمنين. فهي ليست إسقاطًا للحساب، بل وسيلة لرفع الدرجات، وتخفيف العذاب، بإذن الله تعالى وحده، كما في قوله: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255].
وفي الختام
أن كل إنسان مسؤول عن نفسه، ولا يحمل أحدٌ عن أحدٍ شيئًا يوم القيامة، فالأب لا يحمل عن ابنه، ولا الأم عن ولدها، ولا الصديق عن صديقه.
وأن العدل الإلهي لا يُفرّط في جزاء أحد، فلكل عمل جزاؤه الدقيق، لكن رحمة الله أوسع من غضبه، وقد جعل الشفاعة بابًا لمن كان فيه خير، وكان له ولاءٌ لأهل طاعة الله.
ومن أجل ذلك، لا ينبغي للإنسان أن يتكئ على الأماني، بل عليه أن يجمع بين العمل الصالح والرجاء في رحمة الله، وأن يُكثر من التوسل بأحب الخلق إلى الله، فهم وسيلتنا، وشفعاؤنا، وأماننا يوم الفزع الأكبر.