الكذب والمداهنة – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 81-82]
في هذه الآيتين الكريمَتين يوجِّه الله تعالى خطابًا تقريعيًا شديدًا إلى من تعامل مع الوحي الإلهي والقرآن الكريم بموقف المداهنة والارتياب، وكأنهم يستخفون بكلام الله الذي فيه النجاة، ويجعلون من التكذيب به وسيلةً لتحصيل أرزاقهم ومنافعهم الدنيوية.
“الحديث” الذي لا يُكذّب
القرآن الكريم وصفه الله بأنه “حديث”، وهذه الكلمة لغويًا مأخوذة من “الحداثة” أي ما هو جديد. وكأنه تعالى يُذكّر الناس أن هذا الحديث الذي نزل عليهم ليس كأي حديث، بل هو كلام الله، هدية السماء إلى الأرض، الهدى في زمن التيه، والنور في ظلمات الجهل.
وإطلاق اسم “الحديث” على القرآن فيه دلالة على حيويته، تجدده، وارتباطه المباشر بالحاضر والوجدان، فهو حديث الله لعباده في كل وقت، لا يَفقد معناه بمرور الزمن، ولا تَبلى حكمته بتغير العصور.
الجدل العقيم وفتنة خلق القرآن
من الجدالات التي شغلت المسلمين في فترة من الفترات قضية “خلق القرآن”، وراح الناس بين من يقول بقدمه ومن يقول بحدوثه. وبغض النظر عن تفاصيل هذه المسألة، فإن العبرة الكبرى أن كثيرًا من هذه النقاشات لم تكن نابعة من طلب للحق، بل أُثيرت بدوافع سياسية ومذهبية، وشُغل الناس عنها بما هو أهم، وهو العمل بالقرآن لا الجدل في ذاته.
فالله تعالى لم يُنزِّل القرآن ليكون مادة جدل فلسفي عقيم، بل أنزله هُدًى وَرَحْمَةً، ووسيلة لإصلاح النفوس وتزكية الأرواح. واليوم كما الأمس، ينبغي للمؤمن أن لا يُشغَل بما لا يُسأل عنه يوم القيامة، فالله لا يسأل عباده عن تفاصيل كلامه، بل عن امتثال أوامره وترك نواهيه.
المداهنة: خطر خفي في طريق الدين:
الآية تشير أيضًا إلى سلوك خطير يسلكه بعض الناس، وهو المداهنة، أي مجاراة الباطل أو النفاق في المواقف الدينية بدافع المصلحة.
والمداهنة ليست مجرد مجاملة، بل هي تنازل عن مبدأ لأجل منفعة شخصية. وقد كان بعض المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وآله يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر حفاظًا على مصالحهم المادية، لأنهم علموا أن الوقوف في وجه النبي سيحرمهم من الموقع والمكانة في مجتمع المدينة.
وهذا السلوك لا يزال قائمًا إلى يومنا هذا، فكم من إنسان جعل رزقه بالكذب على الله، أو لبّس على الناس أمور الدين، أو نسب إلى الله ما لم يُنزله، فقط لأجل منصب أو مال أو جاه.
قال تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ أي أنتم تسترزقون بالكذب على الحق، وهذا من أقبح صور الاستخفاف بنعمة الرزق، ومن أشنع صور التكذيب لله تعالى.
وفي الختام:
إن من أعظم البلاء أن يرى الإنسان كتاب الله بين يديه ثم لا يأخذ به، بل يداهن، أو يكذب، أو يجعل الدين سلعة يتكسب بها.
وأن على المؤمن أن يطهر قلبه ولسانه من المداهنة، وأن يجعل رزقه من الحلال الذي لا يلوثه باطل، ولا تشوبه شبهة كذب أو خيانة للدين.
وأن أعظم ما يُرزَق به الإنسان هو الإيمان الصادق، واليقين بالحق، والسير على طريق القرآن بصدق لا رياء فيه ولا مداهنة.
فلنجعل رزقنا في الصدق مع الله، لا في الكذب عليه. ولنوقن أن الرزق لا يأتي من مداهنة الخلق، بل من تقوى الخالق.