حركة الحياة البشرية – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
الحياة رحلة متكاملة تبدأ من رحم الأم وتنتهي بدار القرار في الآخرة. تسير هذه الرحلة وفق نظام إلهي دقيق يشمل مراحل متعددة، تتخللها فرص للإحسان والعمل والارتقاء الروحي. من خلال هذه المقالة، سنستعرض معاني حركة الحياة، مع التأمل في دلالات قوله تعالى:
“وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” (القصص: 77). سنكتشف معًا أبعاد التوازن بين العمل للدنيا والآخرة، وما يحمله هذا التوجيه الإلهي من دروس نافعة.
1. رحم الأم: البداية المثالية للحياة
المرحلة الأولى من حياة الإنسان تبدأ في رحم الأم، وهو المكان الذي يوفر الحماية والغذاء في ظروف مثالية. تُعتبر هذه الأشهر التسعة بمثابة “جنة مؤقتة”، تخلو من كل أنواع الكدر والمشقة. هنا تتجلى عظمة الله في توفير كل ما يحتاجه الإنسان للنمو دون تدخل خارجي، وهي إشارة إلى قدرة الله المطلقة ورحمته التي تبدأ مع الإنسان قبل ولادته.
2. دار الدنيا: مرحلة العمل والابتلاء
بعد الولادة، يدخل الإنسان في المرحلة الثانية، وهي دار الدنيا. هذه المرحلة الانتقالية مليئة بالتحديات والفرص التي تُمكّن الإنسان من بناء علاقة متوازنة مع النعم التي وهبها الله له. يقول تعالى:
“اعملوا فسيرى الله عملكم” (التوبة: 105).
هذه الدعوة إلى العمل توضح أن الدنيا ليست مكانًا للركود أو التواكل، بل هي ميدان للسعي والاجتهاد بما يحقق الغاية الأسمى: مرضاة الله.
3. الدار الآخرة: دار الحيوان والقرار الأبدي
تأتي الدار الآخرة كخاتمة لهذه الرحلة، حيث يُجازى الإنسان على أعماله إما بجنة النعيم أو نار الجحيم. تشير الآية إلى أهمية استثمار نعم الله في أعمال الخير التي تقربنا إلى الله. فهي دعوة لأن نجعل من الدنيا وسيلة لخدمة الآخرة، لا غاية بحد ذاتها.
4. التوازن بين الدنيا والآخرة
تشدد الآية الكريمة على مبدأ التوازن:
- “وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا”: الدعوة إلى استثمار نعم الدنيا والاستفادة منها في تحقيق حياة كريمة.
- “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ”: التذكير بأن الآخرة هي الهدف الأسمى الذي يجب أن تُسخّر له كل الجهود.
هذا التوجيه القرآني يُبرز أن الإسلام لا يدعو إلى الزهد المفرط الذي يهمل متطلبات الحياة، ولا إلى الغرق في الماديات على حساب الروح.
خاتمة
حركة الحياة البشرية رحلة متكاملة، تبدأ من الرحم وتنتقل إلى الدنيا، ثم تنتهي بدار الخلود. الآية الكريمة التي استعرضناها تحمل توجيهًا بليغًا للتوازن بين العمل للدنيا والآخرة. إن إدراك هذه المعاني العميقة يساعدنا على استثمار نعم الله بما يحقق السعادة في الدنيا والفوز بالآخرة. لنجعل من هذه القاعدة الربانية منهجًا لحياتنا: نسعى، نُحسن، ونبتغي وجه الله في كل أعمالنا.
“وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض” – رسالة عظيمة تدعونا لأن نكون أدوات بناء لا هدم، ومصدر خير لا شر.