الرقابة الذاتية – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
قال تعالى: ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾
هذه الآية الكريمة تفتح نافذة داخل ضمير الإنسان، لتكشف عن حقيقة رقابية باطنية لا يمكن خداعها. وهي الرقابة التي تجعل الإنسان، وإن أحسن التبرير للناس، يبقى في داخله عارفًا بحقيقة نفسه، وعالمًا بما اقترف، ولو ستره الناس، ولو صدّقوه، ولو هللوا له.
الإنسان من حيث الجوهر لا الشكل:
القرآن حينما يقول: (الإنسان على نفسه بصيرة)، لا يقصد كل من انحدر من سلالة آدم عليه السلام، بل يقصد من سلك سبيل الإنسانية فعلاً وسلوكاً. فالبشر كثيرون، ولكن الإنسان في جوهره قليل. والفرق بين البشر والإنسان كالفرق بين الصورة والحقيقة؛ قد ترى أمامك شخصًا في هيئة بشرية، ولكنه في فعله كالثعلب مكراً أو كالذئب افتراسًا.
ولذلك، من الخطأ أن نظن أن مجرد كونه بشرًا يجعله إنسانًا، بل لا يُطلق وصف الإنسان إلا على من سلك مسلك العقل والأخلاق والضمير.
مفهوم الرقابة الذاتية:
إن رقابة الإنسان على نفسه أقوى من أي رقابة خارجية، فمن يحكمه ضميره لا يحتاج إلى كاميرات مراقبة ولا إلى قانون يلوّح له بالعقاب، لأن القانون الداخلي أقوى من القانون الخارجي. وهذه الرقابة ناتجة عن معرفة الإنسان لنفسه، لذا قال تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة).
والفرق بين مجتمع واعٍ ومجتمع منهار أخلاقيًا هو أن الأول يقوم على بناء الضمير، أما الثاني فيعتمد فقط على الخوف من العقوبة. فلو زال الرقيب، زالت الأخلاق.
الإنسان لا يخدع نفسه:
حتى وإن أحسن التمثيل أمام الناس، وصاغ المبررات بألف لسان، وأقنع الآخرين بسلامة موقفه، تبقى نفسه شاهدة عليه. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)؛ أي مهما قدّم من تبريرات ظاهرية، فإن نفسه لا تنخدع.
ومن أعجب الأمثلة، ما قاله أحدهم حين سُئل: لماذا خرجت تحارب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال: الله أمرني بذلك! كيف؟ قال: أمرني الله بطاعة والدي، وأبي أمرني بقتاله!
فانظر إلى هذا النوع من التبرير الذي يعلم هو أنه غير صحيح، ولكنه يلقيه للناس مخرجًا لنفسه، ولو أن باطنه يرفضه.
الواجب والضمير الشخصي:
المؤمن الحقيقي لا يبرر لنفسه ما لا يقتنع بصحته. فمثلاً، إن كان مريضًا يقدر على الصيام، فلا تبرير له بالإفطار مهما أفتى غيره، لأنه يعلم تكليفه. (الإنسان على نفسه بصيرة)، في قلبه ميزان دقيق، لا يمكن أن يختل، إلا إذا عطله هو بيده.
وفي الختام:
الرقابة الذاتية هي أول طريق نحو الصلاح، ولا قيمة للأعذار المصطنعة ما دامت النفس تعلم الحقيقة. فاعمل على أن تكون إنسانًا قبل أن تكون بشرًا، وتذكر أنك في محكمة ضميرك لا تحتاج إلى قاضٍ خارجي، لأن الحاكم فيك هو أنت، والشاهد هو أنت، والمحامي هو أنت، والحكم هو الله.