حقيقة الإسراء والمعراج – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى…﴾ [الإسراء: 1]
هي آية واحدة لكنها تحمل أبعادًا عقدية ومعرفية وتاريخية كبرى. جاءت لتثبّت قلب النبي صلى الله عليه وآله بعد مرحلة من الشدائد والابتلاءات، واصفةً حادثة الإسراء – كبداية لمعراج رباني – بأنها حدث خارق للنواميس الطبيعية، هدفه ليس فقط التسرية عن النبي، بل ليريه الله من آياته الكبرى.
أولًا: دلالة كلمة “سُبْحَانَ”
تفتتح الآية بكلمة “سُبْحَانَ”، وهذه الكلمة لا تأتي في القرآن الكريم إلا في موضع يتجاوز طاقة البشر فهمه بسهولة، فهي ليست مجرد تنزيه لله عن النقص، بل تُستعمل كذلك للتعبير عن الدهشة من عظمة الفعل الإلهي، وخاصة إذا خالف قوانين الطبيعة المعتادة.
فمن الذي يستطيع أن يُسري بعبدٍ من مكة إلى بيت المقدس في لحظات؟! بل من الذي يستطيع أن يطوي الزمن والمكان بهذا الشكل؟! لا ريب أن الفعل فوق القدرة البشرية، ولذلك بدأ القرآن الحديث عنه بـ”سبحان”.
ثانيًا: المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى… لماذا؟
الآية تسلط الضوء على مرحلة من الرحلة: من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس. وهذا المقطع هو المسمى بـ”الإسراء”. وهو ليس كل الرحلة، بل المعراج الذي ذُكر لاحقًا في سورة النجم، يُكمل المشهد.
وهنا تنبّه الآية إلى قدسية المسجد الأقصى ومحيطه: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾
فهو موطن الأنبياء، ومهبط الوحي، وعنوان وحدة الرسالات السماوية. وقد كان مكان اجتماع الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله في الصلاة، كما ورد في الروايات.
ثالثًا: تأكيد القرآن لحقيقة الإسراء والمعراج
حادثة الإسراء واجهت موجة من التكذيب الشديد من قريش، حيث استغربوا كيف يسافر النبي ليلاً من مكة إلى الشام ثم يعود، في حين أن مثل هذه الرحلة تحتاج إلى شهر ذهابًا وشهرًا إيابًا.
لكنّ القرآن لم يكتف بذكرها في آية واحدة، بل دعمها بأدلة أخرى في سورة النجم: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى﴾ [النجم: 13-14]
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وآله رأى جبرائيل على صورته الحقيقية للمرة الثانية عند سدرة المنتهى، وهي من مشاهد المعراج الروحي والبدني.
رابعًا: تكذيب عتبة بن أبي لهب… وعاقبته
من أبرز من واجه النبي بالتكذيب والسخرية إثر نزول السورة، كان عتبة بن أبي لهب، فقد: طلق ربيبة النبي صلى الله عليه وآله، وتفل في وجه النبي الكريم، وقال ساخرًا: “كفرت بالنجم وربّ النجم”.
فكان أن دعا عليه النبي صلى الله عليه وآله وقال: “اللهم سلط عليه كلباً من كلابك”.
فخرج عتبة إلى الشام، وفي الطريق نزل في مكان قفر، فأحاطه أصحابه وسطهم من خوفه، لكنه مع ذلك هجم عليه أسد من بين الناس وافترسه، كما أخبر النبي، فكان آية أخرى شاهدة على صدق الرسالة.
وردت هذه القصة في:تفسير القمي، مجمع البيان للطبرسي، تفسير الميزان، وأكدتها بعض المصادر السنية مثل تفسير الطبري.
خامسًا: دروس من آية الإسراء
رحلة الأنبياء ليست طبيعية بل إعجازية: لا ينبغي تأويلها تأويلاً مادياً، فهي واقعة فوق طبيعة الزمن والمكان.
العقيدة فوق المحسوسات: الإيمان بحوادث ما فوق الطبيعة جزء من التوحيد الأصيل، كما هو حال الإسراء.
التكذيب سُنة الكفار في كل زمان: فكما كذبوا بالنبي آنذاك، فهم يكذبون اليوم بتعاليمه تحت شعارات “العقلانية” و”الحداثة”.
المعراج لا يعني الابتعاد عن الأرض بل العودة إليها: فالنبي بعد أن أُسري به، رجع ليحمل الرسالة بقوة أكبر.
وفي الختام:
آية الإسراء تُعلّمنا أن الحق لا يُقاس بالمألوف ولا يُوزَن بالعُرف ولا يُحكم عليه بالمقاييس المادية، بل الحق ما ثبت من عند الله ولو خالف العقل البشري القاصر. فكما آمن المسلمون بالإسراء والمعراج، فليؤمنوا كذلك بولاية محمد وآل محمد، رغم ما يواجهونه من تكذيب وشبهات، فهي رحلة من الأرض إلى السماء، من التقليد إلى اليقين، ومن الغيب إلى الشهود.