تفسير اهدنا الصراط المستقيم – د. الشيخ أحمد الوائلي
ما هو الصراط المستقيم؟
لا شك أن من يدعو بهذا الدعاء الوارد في القرآن الكريم وهو قول (اهدنا الصراط المستقيم) هو مسلم، والمسلم قبل أن يهتدي إلى الإسلام وفر الله له كل أسباب الهداية، وإلا فهو قبل أن يهتدي إلى الإسلام لا يكلفه الله بأحكام شرع الإسلام، فهل الدعاء بهذا الدعاء مجرد تحصيل حاصل كما يقول بعضهم؟
الجواب هو بالنفي، فنحن نستطيع أن ندعو بشيء متحقق فعلا وليس بالضرورة أن ندعو للحصول على شيء ما غير متحقق، كقوله تعالى (وقل رب احكم بالحق) والله لا يحكم بغير الحق، لكنه دعاء وارد، ومعناه رب أدم حكمك بالحق وطبقه في بعض الحالات، كدعاء الله أن يحكم بالحق برد ظلم بعض سلاطين الجور والحكام الظلمة لتطبيق حكمه، وكدعاء إبراهيم ربه قائلا (ولا تخزني يوم يبعثون) والنبي إبراهيم عليه السلام لا شك أنه بعيد عن الخزي في الآخرة لكنه مع ذلك يدعو ربه بذلك.
كما أن الله يريد أن يعلمنا من خلال هذا الدعاء أن ندعو بما يرسمه لنا، وهناك نزاع بين العلماء دائر حول جواز الدعاء بغير المأثور أم لا بأن يخترع ألفاظا من عنده ويدعوه بها، أم أنه يجب أن يدعو بما هو مأثور عن أولياء الله وأصفيائه فقط، فهناك من يقول بأن الأفضل الدعاء بالمأثور.
وهناك من ذهب إلى أن الدعاء بغير المأثور أفضل لأن الله يريد من عبده أن يثني عليه بكلامه هو، لكن الثابت هو أن الأدعية التي أوردها الله في كتابه العزيز لا يمكننا أن نأتي بمثلها بألفاظنا الخاصة، فهي أدعية شاملة كاملة تحتوي أعمق المعاني وأكملها.
لذلك فإن دعاء الله بكلامه هو كدعاء (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) أفضل وأكمل، والله يحب أن يحمد ويذكر بما ذكر ووصف به نفسه، والألفاظ التي أنزلها الله هي قطعا أفضل من عباراتنا وألفاظنا القاصرة، فادع الله بما أمر هو أن يدعى به.
ما معنى الهداية؟ الهداية هي الإمالة، والهدي هي الناقة أو الشاة التي نذبحها في الحج فنميل بها للبيت، والهدي مأخوذ من الإمالة، ومنها قوله تعالى (ربنا إنا هدنا إليك) أي ملنا إليك، وهي الميل المعنوي.
أما كلمة (اهدنا) فتعني هيئ لنا ما يسبب الميل إليك وأعنا على أنفسنا، فندعو ربنا بأن يوجهنا إليه ولا يجعلنا نتهادى يمينا وشمالا، ولا أحد يستحق الميل إليه غير رب العزة والجلالة.
لا شيء أكرم عند الله من الدعاء، والدعاء هو قسم من أقسام العبادة، فالدعاء هو الاتصال بالمطلق غير المحدود والكامل غير الناقص، فأنا إن شعرت أني ناقص والله كامل، وأني فقير والله غني، وأني بحاجة والله معطاء، وهذه كلها عبادة عميقة تنبع من أعماق النفس.
ودعاء الله لا يقاس مع دعاء غيره، فأنت لو دعوت غير الله لم تشعر بذلك التوجه وذلك الخشوع الذي قد تشعر به في دعائك لله، فمن تدعوه من دون الله ناقص وليس كاملا، ومن يعطيك يمن عليك لكن الله لا يمن عليك ولا يشعرك بالمنة، وعطاء غير الله مشوب بالتنغيص وعطاء الله محض النعمة والرحمة والسعادة.
ما هو الصراط المستقيم؟
الرأي الأول يقول إن الصراط المستقيم هو القرآن الكريم. يقول علم الرياضيات عند تعريف المستقيم إنه أقرب طريق أو أقرب بعد بين نقطتين، بعكس الطريق الملتوي أو المنحني الذي يكون أطول من المستقيم، فالطريق المستقيم بوصلك بأسرع وقت إلى غايتك ومقصدك.
القرآن الكريم يعمل بنفس الطريقة، فهو يوصلك إلى الهدف بأسرع طريق ومن أقرب نقطة ودون لف ودوران، ولكن بشرط أن تتبع القرآن الكريم بذاته لا ما يدعى أنه القرآن، فلا أتبع الهوى الذي يدخل في فهمي للقرآن.
ومثالا على ذلك الآية الكريمة التي تقول (إنك لا تهدي من أحببت) ومعناها هو أن الله يخبر نبيه الكريم صلى الله عليه وآله بأنك لن تستطيع هداية أي شخص تحبه ووظيفتك أنت هي البلاغ والتبليغ، فإن بلغت فقد سقط التكليف عنك ولا حرج عليك ولا مسؤولية فيما لو لم يهتد الشخص المقصود، ولسان هذه الآية عام وليس مخصوصا بأحد ما، فيأتي أحد المفسرين ويفسر هذه الآية ويقول إن المقصود بهذه الآية هو أبو طالب عم النبي.
ما الذي رآه هذا المفسر من أبي طالب من سوء بحق النبي والإسلام بحيث يتهمه بمثل هذا الاتهام؟ إن أبا طالب لم يدخر جهدا في الدفاع عن الإسلام وعن نبي الإسلام، وسخر أولاده الأربعة في سبيل خدمة الدين الإسلام وحماية نبيّه الكريم، وإن أولاده هم من خيرة أصحاب الرسول الذين جاهدوا معه وقاتلوا وقتلوا في سبيل الله وذودا عن حياض الدين، كما أن أشعار أبي طالب في ديوانه تشهد بغير ذلك وبخلافه.
وهناك دليل آخر على إيمان أبي طالب وهو ثبوت إسلام زوجته فاطمة بنت أسد، والقرآن يأمرنا في إحدى آياته فيقول (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)، فكيف للنبي صلى الله عليه وآله أن يسمح بأن تكون أمة مسلمة تحت شخص كافر كما يزعمون؟!
وأهم الأدلة على عدم كفر أبي طالب هي أن آل أبي طالب وأبناءه كلهم مجمعون على إيمان جدهم، ورأيهم هو رأي عترة رسول الله، والعترة كما في حديث النبي هم عدل القرآن، وهم الثقل الأصغر بعد الثقل الأكبر وهو القرآن كما ورد في حديث الثقلين: إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، ولقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فالعترة والقرآن لا يتفارقان ولا يفترقان حتى يردا الحوض على النبي صلى الله عليه وآله.
الرأي الثاني في معنى الصراط المستقيم وهو ما يرويه في الحسكاني في تفسيره، والثعلبي وابن أبي وكيء وجماعة كبيرة من كبار المفسرين، ويقول هذا الرأي هو أن الصراط المستقيم هو حب رسول الله وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو مأخوذ من رواية عن عبد الله بن عباس وطريق آخر بأن الصراط المستقيم هو صراط آل محمد بالذات.
وتقول الرواية أن النبي استدعى عليا فقال له: أنت يعسوب المؤمنين وأنت الصراط المستقيم… إلى آخر الرواية، وهذه الرواية مجمع على صحتها لدى علماء المذاهب الإسلامية.
الرأي الثالث يقول بأن الصراط المستقيم هو طريق الحج لأنه طريق مباشر إلى الله تعالى فهو يقودك نحو الكعبة بيت الله الحرام. ويرد عليه العديد من الإشكالات، منها أن النكرة في العربية إذا حليت بالألف واللام أفادت العموم، لكن الحج ليس من العموم، فالحج طريق واحد من طرق الوصول إلى الله وهناك العديد من الطرق غيره مما يوصل إلى الله.
كما أن هناك من يذهب إلى الحج وهو لا يهدف للوصول إلى الله بل له فيه مآرب أخرى، فمنهم من ذهب إلى الحج لأهداف سياسية، ومنهم من ذهب إلى الحج لأغراض فسق وفجور كالشاعر عمر بن أبي ربيعة، ومنهم من ذهب إلى الحج بغرض التجارة وغير ذلك، فالحج ليس دوما طريق موصل إلى الله لدى الجميع.
كما أن الحج تكليف مشروط بالاستطاعة، فالله يقول (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) فهل يمنع عدم الاستطاعة للذهاب إلى الحج الإنسان من الهداية إلى الصراط المستقيم؟
هذا مع الإقرار بعظمة عبادة الحج إن أديت بشرطها وشروطها الصحيحة، فالحج قربة عظيمة إلى الله عز وجل وفيه من المعاني العميقة والطقوس الجميلة ما يقرب العبد من ربه، وللحج العديد من الدروس والعبر التي تستخلص منه، ومن أهمها التعرف على بقية عباد الله المسلمين وبث روح الوحدة في صفوف المسلمين وجمع كلمتهم ولم شملهم.
ولذلك حرص الإمام الحسين عليه السلام على عدم هتك حرمة ذلك المكان المقدس الذي يحج إليه الناس من كل فج عميق، فرغم أنه لم يكن يفصله عن وقت الحج سوى أيام قلائل إلا أنه فضل الخروج من مكة والبيت الحرام ليحفظ حرمة المكان لئلا يدنسه أعداؤه، فأولئك على استعداد لتدنيس الكعبة ولا مشكلة لديهم في ذلك، وقد فعلوا ذلك برميها بالمنجنيق وقتل عبد الله بن الزبير هناك.
فعندما كرم الحسين عليه السلام الكعبة وحفظها من الهتك كرمه الله بجعل قبره الشريف روضة من رياض الجنان ومقصدا للملهوفين من كل مكان، وجعل في تربته الشفاء وشرفه شرفا ما بعده شرف وهو الشريف ابن الشرفاء والعظيم ابن العظماء.