مقاييس الآخرة – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين
ما هي مقاييس الآخرة؟ هل تختلف مقاييس الآخرة عن مقاييسنا الدنيوية؟
إن مقاييس الآخرة تختلف عن مقاييسنا نحن في الدنيا، فمثلا نحن في الدنيا لدينا معدل عمر معين يقدر حاليا بثمانين عاما، فلا يمكننا أن نتصور حياة أو عمرا أطول من ذلك بكثير.
وعندما تتحدث بعض الروايات المعتبرة عن الثواب الذي يعطى للمؤمنين في الجنة أو العقاب الذي ينال الكافرين في النار كمنح عدد كبير من الغرف للمؤمن في الجنة فهو يبدو غير مفهوم بالنسبة لنا نحن أهل الدنيا، وبالتالي لا نستطيع الحكم على هذا الموضوع وملابساته نظرا لاختلاف المقاييس، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على اختلاف كبير في المقاييس بين مقاييس الآخرة ومقاييس الدنيا.
ما بدأت به الآية بدا تفسيره غريبا لدى المفسرين القدماء، وذلك لعدم إدراكهم لكيفية حصول تواصل بين أهل الجنة وأهل النار، ومن المعلوم أن المسافة بين الجنة والنار مسافة هائلة كما تذكر الروايات، فكيف لهم أن يتواصلوا، وكيف لأهل النار أن ينادوا أصحاب الجنة كما تقول الآية؟
ومن أولئك المفسرين الفخر الرازي الذي حاول تفسير ذلك بأن الله يزحزح الجنة لتقترب من النار فيتواصل الفريقان مع بعضهما، وذلك لعدم توفر أجهزة الاتصال الحديثة المتوفرة في الوقت الحالي، ولو كان في عصرنا لما قال ذلك، لأنه كان مجرد استنتاج من وحي الخيال ولم يعتمد في على قول أو نقل.
ولكن الطلب الذي طلبه أهل النار من أهل الجنة يبدو غريبا بعض الشيء، فقد طلبوا أن يفيض أهل الجنة عليهم من الماء، والإفاضة تعني الإسالة من أعلى إلى أسفل، وهذا يؤيد قول الشيخ الطوسي بأن الجنان هي في السماء والنار هي في الأرض.
ومما يستفاد من هذه الآية معرفة مدى أهمية الماء لأن الله يقول (وجعلنا من الماء كل شيء حي). الماء هو الحياة، ولا حياة بدون ماء، والماء يأتي في الأهمية بعد الهواء، فكما أننا لا نستطيع العيش للحظات دون هواء فنحن لا نستطيع العيش والبقاء أحياء دون ماء لأيام.
وقد خص الله الماء من بين جميع موارد الطبيعة التي خلقها بأن جعله ملكا للجميع ولا ملكية لأحد عليه.
وإن انخفاض أسعار المياه في عصرنا الحاضر إنما هو بسبب توفرها بكثرة، وهو على أساس قاعدة العرض والطلب التي تدرس في الاقتصاد، فالمعروض من الماء كثير والماء متوفر بكثرة، ولولا ذلك لشهدت حروبا طاحنة على المياه، وهذا ما يتوقعه محللون من أن الحروب القادمة للبشرية ستكون حروب مياه.
والله جعل الماء ملكا للجميع ولا حق لأحد بأن يمنع الماء عن آخر، فماء النهر ملك للجميع.
وهنا أورد بعضهم إشكالا بأنه كيف لأهل النار وهم بمثل حالهم أن يطلبوا الماء؟ وهل لمن يحترق بالنار الشهية لشرب الماء؟
تجيب رواية عن أحد الأئمة صلوات الله عليهم عند سؤال أحدهم عن كيفية حشر الناس ليوم الحساب وماذا يأكلون وماذا يشربون في ذلك اليوم ومقداره خمسون ألف سنة؟
يجيب الإمام عن تساؤله بأن الناس يحشرون على أرض من الخبز، فيأكلون من الخبز ويشربون الماء إلى أن ينتهي وقت الحساب.
فيقول له الشخص مستغربا: كيف يفكرون في الخبز وهم على تلك الحال في يوم الحساب العظيم؟ فقال له الإمام بأنهم في النار أشغل ومع ذلك فقد طلبوا الماء والطعام.
إن الآيات والروايات التي تحدثت عن عذاب نار جهنم لا يمكن تصورها بالمقاييس الدنيوية على الإطلاق، إذ كيف لنا أن نتخيل بقاء جسد الإنسان داخل نار بتلك الحرارة الهائلة لسنوات وسنوات دون أن يموت ودون أن يذوب جسده، فلو قسناها بمقاييسنا لتوقفت عقولنا عن إدراكها، لكن مقاييس الآخرة مختلفة ولا يمكن أن ندركها في حياتنا الدنيا.
كما يمكن أن يفسر طلب أهل النار للماء والطعام بضيق أفقهم ومحدودية أفكارهم، فكما كانوا في الدنيا لا يفكرون سوى بإشباع فروجهم وبطونهم وأجسادهم، فهم كذلك في الآخرة لا يفكرون سوى بذلك.
ثم تختتم الآية بالقول (قالوا إن الله حرمهما على الكافرين)، وفيها دلالة على أن من يخلد في النار هم الكافرون، ولا يخلد مؤمن في النار، فمن شهد الشهادتين وأحب الله ورسوله والذين آمنوا وتولاهم فإن حزب الله هم الغالبون، والمؤمن لا يكفر أخاه المؤمن لدواع تافهة وغير ضرورية ومن يفعل ذلك فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا وأوقد نارا للفتنة والفتنة أشد من القتل.
إذن علينا أن نعي حقيقة واضحة وهي أن نتوقف عن القياس بمقاييسنا الدنيوية ونعلم أن مقاييس الآخرة مقاييس مختلفة لا ندركها ولا نعلم عنها شيئا إلى يوم الحساب.