إنما تعمى القلوب – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
هناك طرق متعددة لتحصيل المعرفة، ومن هذه الطرق المطالعة وقراءة الكتب أو المقالات العلمية التي نتلقى العلم عن طريقها ونزيد مخزوننا من المعرفة.
فمثلا لو أردنا معرفة ما جرى في التاريخ لتناولنا كتابا من كتب السيرة والتاريخ لأعرف ما جرى في برهة تاريخية معينة.
لكنني لن أستطيع معرفة ما جرى بشكل دقيق وكامل إذا لم أقم بجولة ميدانية على موقع الحدث التاريخي لأعرف ملابسات ما حدث، فلو أردت معرفة ما جرى في معركة أحد فإنني لن ألم إلماما كاملا بمجريات المعركة إذا لم أحضر في الموضع الذي جرت فيه فأعرف موضع التل وموضع الرماة الذين كانوا يحمون ظهر المسلمين وكيف التف جيش المشركين حوله وما إلى ذلك.
كذلك الأمر في قبور أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فلو اكتفينا بقراءة السيرة وأردنا من خلالها تحديد قبورهم (صلوات الله عليهم) لعجزنا عن ذلك، فمثلا ذكرت كتب السير أن قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) بين ذكوات بيض أربع بوادي الغري، فهل يمكننا تحديد القبر بدقة من خلال هذا الوصف فقط؟
لا شك أن هذا غير ممكن، وإن الدراسة الميدانية مطلوبة لتحديده بدقة، وهذا ما حصل وتم تحديد قبر (عليه السلام) وقبور بقية أئمتنا (عليهم السلام).
وإن القراءة الميدانية تعطينا معلومات أكثر صدقا مما كتب في كتب التاريخ والسير، لأن كتب السير تحتمل التصحيف أو التحريف أو الميل إلى الهوى، وهذا مما يضعف الاعتماد عليها بشكل كامل.
يأمرنا الله تعالى شأنه في هذه الآيات بالسير والسفر في البلدان ومشاهدة القرى التي أهلكها الله من قبلنا لكي نأخذ منها العبرة والدروس كي لا نكون من الذين قال فيهم الله (إنما تعمى القلوب التي في الصدور).
وقد نزلت الآية المباركة في ابن أم مكتوم، وهو رجل ضرير لا يرى، وعندما نزلت الآية الكريمة (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) ذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) خائفا يرتعد فقال له: هل سيحشرني الله أعمى في دار الآخرة وأنا الآن أعمى؟ ما ذنبي ليكون مصيري كذلك؟ فنزلت الآية المباركة لتوضيح معنى الأعمى المقصود، فالعمى ليس عمى الأبصار إنما تعمى القلوب التي في الصدور.
ولا يمكن حمل مثل هذه الآيات على ظاهرها كما يحاول بعضهم أن يفعل لأنها تخالف العقل، وهناك نظرية في التفسير تقول بالأخذ بظاهر القرآن دون مراعاة أن تكون موافقة للعقل، وأصحاب هذه النظرية يرون بأن قوله تعالى (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) تعني أن لله وجها -والعياذ بالله-، أو آية (يد الله فوق أيديهم) تدل على إثبات اليد له سبحانه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فالله محيط بكل شيء، ونظرية التجسيم لا تستقيم بحال من الأحوال مع إحاطة الله وعلمه ومعرفته بكل شيء.
وهناك نماذج كثيرة من الناس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.