تفضيل القرآن – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون)
تتحدث الآية عن أحسن كلام الله، ومن المعلوم أن تفضيل كلام على كلام أو شيء على آخر هو موجود في حياتنا وكلامنا نحن المخلوقين غير الكاملين، لكن هذا لا ينطبق على كلام الله فهو كله حسن وكله كامل لأن الله منزه عن النقص.
وإنما التفضيل الذي تتحدث عنه الآية إشارة إلى معاييرنا نحن، فنحن لسنا متساوين، فمنا العالم ومنا الجاهل ومنا الذكي ومنا الأحمق ومنا العبقري ومنا الأبله وهكذا، ولذلك يمكن أن نطلق على فلان بأنه أعلم من فلان، أو أن فلانا أقوى من فلان أو أكمل منه أو أحسن منه صوتا أو وجها، لكن هذا لا ينطبق على الله، فهو لا ينزل إلا الشيء الحسن.
ويمكن أن يفهم من الآية الكريمة بأنها إشارة إلى تفضيل القرآن على ما سبقه من كتب سماوية، فقد أنزل الله من قبل القرآن التوراة على موسى عليه السلام، ثم أنزل الإنجيل على عيسى المسيح عليه السلام، وهذه رسالات سماوية عالمية تشمل جميع البشرية على خلاف زبور داوود الذي لا يعد كذلك.
إنها إشارة إلى تفضيل القرآن على ما سبقه من رسالات السماء، وذلك لأن القرآن هو متأخر زمانا عن تلك الرسالات ولذلك فهو يحوي كل ما سبقه من كتب ورسالات ويزيد عليها.
وهذا ما نشهده في القرآن الكريم، فقد أنزل الله نفس الأحكام السابقة الموجودة في توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما السلام وأضاف عليها أحكاما أخرى، ونسخ قسما منها أي غيرها بما يتناسب مع الزمن، وهذه من أسباب تفضيل القرآن وشريعة الإسلام على بقية الشرائع الباقية، فالإسلام دين مرن وأحكامه فيها من المرونة بما يجعله صالحا لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وهذا ما لا يتوفر في غيره من الشرائع التي اندثرت أو شارفت على الاندثار، ولم يعد أهلها يؤمنون بها.
ومن الأمور القابلة للتغيير مثلا مسألة لباس الشهرة الذي قد يكون كذلك في زمان أو مكان ويختلف في زمان ومكان آخرين، أو مسألة الضرورات تبيح المحظورات، فقد أحل الله لنا بل أوجب علينا أكل ما حرمه في الأوقات العادية حماية للنفس وحفظا لها من الهلاك.
أما مسألة الخمر التي يعتقد بعضهم بأن الشرائع السماوية السابقة قد حللتها فهو لا يكون ولا يجوز على الله، فالخمر كما قال تعالى إثمه أكبر من نفعه ويؤثر في العقل ويخرج الإنسان من إنسانيته، فكيف تسمح شريعة أنزلها الله بتعاطي مثل ذلك؟ إنما ذلك من أقاويل وتحريفات الكهنة والقساوسة المبطلين.
كما أن القرآن يعتبر حارسا أمينا للحديث والسنة، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله بما صح عنه أن نعرض كل ما يصلنا منه ومن أهل بيته عليهم السلام من حديث على كتاب الله فما وافق كتاب الله أخذنا به وما خالفه ضربنا به عرض الجدار.
ومن ذلك بعض الروايات الواردة في التجسيم وادعاء الجسمية لله تبارك وتعالى، كالقول الوارد الذي يقول بأن الله خلق آدم على صورته وطوله ستون ذراعا، فهذا لا يتوافق مع إحاطة الله بكل شيء ولا يتناسب مع عظمة الخالق ولذلك نرفضه رفضا قاطعا ولا نقبل به.
إذن فإن من أسباب تفضيل القرآن على التوراة والإنجيل كما نص كتاب الله هو استيعابه لما في التوراة والإنجيل والكتب السماوية السابقة.
ومن أهم أسباب تفضيل القرآن الكريم على سائر الكتب السماوية هو ما نراه اليوم بين أيدينا من توراة ومن إنجيل، فعندما نقرأ ما في هذين الكتابين نشعر بالخجل والاستغراب لما ورد فيه، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نقبل بأن ما وصلنا من هذه الكتب هو تلك التي أنزلها الله على أنبيائه عليهم السلام، لأن فيها من الفواحش التي نسبت إلى أنبياء الله ومن الدعوات إلى ارتكاب الرذائل ما لا يصح نسبه إلا إلى كهنة وقساوسة محرفين مبطلين.
في حين أن القرآن الكريم كتاب منطق وعلم وحكمة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس فيه من الخرافات والأباطيل ما يشذ عن العقل والحكمة، وهذا سبب وجيه لتفضيل القرآن على غيره من رسائل السماء.
إن القرآن الكريم لم يتعرض للتحريف كما تعرضت الشرائع الأخرى، وبقي كما أنزله الله على عبده وتكفل بصيانته عن التحريف، وإن الروايات التي تقول بتحريف القرآن لا يقبل بها جمهور علماء الفريقين، وجملة العلماء يقولون بأن القرآن هو هذا الذي بين أيدينا ما بين الدفتين.