ازدواجية الشخصية – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)
تدور الآية الكريمة حول مسألة ازدواجية الشخصية، ومعنى ازدواجية الشخصية هو الظهور أمام الآخرين بشخصية ما والظهور أمام غيرهم بشخصية أخرى، وهو أشبه ما يكون بالنفاق.
وقد نزلت الآية الكريمة في الأخنس بن شريق، وكان من المشركين الذين أبوا الخروج لقتال المسلمين، وكان لديه سرية من ثلاثمائة رجل، وسمي بالأخنس لأنه خنس بهؤلاء عن قتال النبي.
ثم أظهر إسلامه للنبي صلى الله عليه وآله ثم خرج. وقد سمي بالأخنس لأنه كان يظهر خلاف ما يبطن، وكان طليق اللسان وجميل المظهر، وأظهر المودة للمسلمين، لكنه بعد أن خرج مر بزرع للمسلمين فأحرقه، ثم مر بدواب لهم فقام بقتلها، فنزلت الآية الكريمة فيه.
لكن الآية وإن كانت نازلة في هذا الشخص إلا أن ذلك لا يمنع أنها تشمل كل من يعاني من مرض ازدواجية الشخصية، فكل من يظهر بوجهين مختلفين ولا يظهر ما يبطن فهو مشمول بهذه الآية المباركة.
وفي الحقيقة فإن التعامل مع مثل هذا النوع من الأشخاص أمر صعب ويدعو للحذر دوما، وكما ورد في الحديث فإن التعامل مع الناس في زمن يكثر فيه هذا النوع من الأشخاص ينبغي أن يكون مبنيا على الحذر وعدم الظن بجميع الناس خيرا، فهو من البله.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام فطنا في الحكم على مثل هؤلاء الأشخاص، فكان عندما يحكم بين أناس من هذا النوع يأتيهم من حيث لا يعلمون فيظهرون كل ما يبطنون.
وقصة المرأتين اللتين تنازعتا في ولد كل منهما تدعي أنه لها أشهر من أن تذكر، فعندما جاءتا إلى أمير المؤمنين عليه السلام أمر بأن يؤتى بمنشار ليقسم الولد نصفين بين المرأتين، وما إن هم أمير المؤمنين بتنفيذ الحكم نهضت إحداهما وقالت إن الولد لتلك المرأة، فحكم الإمام عليه السلام لصالحها لأنها عندما نهضت تحرك فيها حس الأمومة الذي لم يتحرك في الأخرى التي لم تحرك ساكنا وأمير المؤمنين يهم بنشر الولد.
ومن تلك المواقف امرأة أنكرت أن فلانا ابنها لكي لا يرث شيئا منها، فجاء الإمام وأراد تزويجها بذلك الشخص بحكم ولايته العامة لأنها كانت تدعي بأنه ليس ابنها، وسرعان ما اعترفت المرأة بأنه ابنها خوف العار.
وقصة المرأتين اللتين ولدتا في يوم واحد أحدهما ولدت صبيا والأخرى ولدت بنتا، فادعت كل منهما الصبي لها، وقد حدثت هذه الحادثة في أيام خلافة الخليفة الثاني الذي طلب حضور أمير المؤمنين عليه السلام لأنهم عجزوا عن إيجاد حل لهذه المعضلة.
وعندما أتوا إلى أمير المؤمنين كان في بستان له يتركل على مسحاة له، فشرحوا له القضية فعرض عليهم الحل فورا وأمرهم بأن يأتوا بميزان دقيق من ميازين الصيارفة وأن يوضع إناءان بنفس الوزن على كفتيه، ثم تحلب كل منهما فتضع في إناء ثم يوزن الإناءان، فاللبن الذي ترجح كفته هو لأم الصبي، واللبن الأخف وزنا هو لأم البنت.
وقد سبق أمير المؤمنين عليه السلام عصره بهذا الحكم، فقد جاء العلم الحديث بعد مئات السنين ليثبت أن لبن الأم التي ترضع صبيا أعلى كثافة ووزنا من مرضع البنت وذلك بسبب حاجة الصبي لكمية أكبر من اللبن بحكم تكوينه العضلي وصلابته.
وهذه الآية تنطبق على كل العصور، فازدواجية الشخصية منتشرة على مر العصور وحتى يومنا هذا، فتجد اليوم ممن يحملون شهادات عليا لا يكادوا يفقهون شيئا ويتقلدون أعلى المناصب لمجرد حصولهم على تلك الشهادات، ولكن الشهادات لا تكشف وحدها عن حقيقة الشخص، فرب حامل شهادة دكتوراه لكنه لا يملك من الكفاءة ما يملكه عامل عادي يحمل شهادة ثانوية.
ومن خصائص من يعاني من ازدواجية الشخصية هو أنه يكثر من القسم بالله، والله تعالى ينهانا عن الحلف في كل أمر صغير، والقسم لا يكون إلا في عظائم الأمور، ومن يكثر من القسم فهو يعاني من ازدواجية الشخصية وضعف فيها.
وهذا الشخص الذي يعاني من ازدواجية الشخصية لو أنه ملك زمام الأمور فمن الطبيعي أنه سيهلك الحرث والنسل كما قالت الآية الكريمة، وهذا ما حدث على مر التاريخ بعد أخذ الخلافة من أصحابها الحقيقيين وتسليمها لمن ليس أهلا لها، فترى المجازر التي حدثت بالمسلمين والمؤمنين على مر التاريخ لمجرد معارضتهم للحكم، ومن أوضح الأمثلة والمصاديق على ذلك ثورة الإمام الحسين عليه السلام ضد طاغية عصره يزيد.