حقيقة الشر ومعنى التعوذ – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ “الفلق: 1-2”
هل “قل” جزء من القرآن؟
تساءل البعض: هل كلمة “قل” في مطلع كثير من السور، كـ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾، هي جزء من الوحي المنزل أم مجرد توجيه للنبي صلى الله عليه وآله؟
وقد أجاب النبي صلى الله عليه وآله بنفسه، حين سُئل: “أنت تقول قل أم أُمرْت أن تقول؟”، فأكد أن “قل” جزء من النص القرآني المنزل، يُتلى كما أُنزل، لا زيادة ولا نقصان. فلو فُتح باب التعديل في ألفاظ الوحي، لفُتح باب التحريف، وهذا مخالف لصيانة القرآن التي تعهد الله بها.
المعوذتان في القرآن الكريم
ظهرت بعض الروايات في بعض المذاهب تشكك في اعتبار سورتي الفلق والناس من القرآن الكريم، وتنسب هذا إلى بعض الصحابة مثل عبد الله بن مسعود. لكنها روايات شاذة لم يأخذ بها علماء تلك المذاهب أنفسهم، وقد أجمعت الأمة الإسلامية على قرآنية المعوذتين.
والطعن في قرآنيتهما أشبه ما يكون بالمزايدات الطائفية، التي تُضخَّم للتشويش على أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام باتهامات مماثلة في كتبهم، رغم أن الطرفين متفقان على قدسية النص القرآني وصيانته.
تفسير “الفلق” والسر في التعوذ به
فسّر المفسرون كلمة “الفلق” بعدة معانٍ:
الصباح: وهو أبرز معانيها، كما في قوله تعالى ﴿فالق الإصباح﴾.
الخلق: أي خالق جميع المخلوقات التي “فلقها” من العدم إلى الوجود.
وقد أمر الله تعالى بالتعوذ برب الفلق تحديدًا، لأن الصبح بداية النور والخلاص من الشرور التي غالبًا ما تنشط ليلاً.
الليل ومظنة الشر
معظم الشرور والمخاوف تتقنع بظلام الليل: السارقون والمجرمون يتحركون ليلاً.
الحيوانات المفترسة والحشرات المؤذية تنشط بالليل.
الليل رمزٌ للمؤامرات والدسائس: كما في قول العرب “دُبِّر بليل”.
أما الفجر، فهو انبلاج النور وانكشاف الحقائق، وبه يبدأ النشاط والعمل، وينتهي زمان الستر والظلمة. ولهذا ارتبط الاستعاذة من شر الخلق بالفلق، أي بخروج الناس من ظلم الليل إلى نور النهار.
هل الله يخلق الشر؟
الله لا يخلق شرًا محضًا، بل: كل مخلوق خلقه الله له قابلية للخير والشر، لكنه خلقه على فطرة بيضاء، فالشر لا يأتي من الخالق، وإنما من اختيارات المخلوق.
كما قال تعالى: ﴿من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها﴾ و﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾
بين الخير والشر: الإنسان يختار
الشر ليس كيانًا مستقلاً بل هو انحراف عن مسار الخير.
وكل إنسان يحمل الاستعداد لكليهما، لكنه يُحاسب على ما يختاره.
الفلاح في أن يضبط النفس ويُهذبها، لا أن يتركها للهوى.
سيرة الأولياء في مواجهة الشر
سيد العابدين والزهاد، أمير المؤمنين عليه السلام، كان يقوم ليله بذكر الله ويعمل نهاره لكسب الرزق، يجمع بين العبادة والكدّ، ويواجه الشر باليقظة الروحية والتقوى.
خلاصة
الشر لا يُنسب إلى الله بل إلى اختيارات الناس.
والقرآن كلام الله بألفاظه وأوامره كلها، حتى “قل”.
والمعوذتان من سور القرآن المتواترة، وقد أمرنا بهما للتعوذ من شر الخلق، لا من الخالق.
والتعوذ برب الفلق، هو تعوذ برب النور والخلاص من ظلمة الشر، لأن الله هو وحده القادر على أن يُخرج الناس من ظلمات أنفسهم إلى نور رحمته.