الظلم – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين)
ما هو مصدر الظلم؟
إن الظلم ينشأ من أحد أمرين: إما زيادة في الطاقة داخل الإنسان أو نقص فيها، فأما الزيادة في الطاقة تعني أن الإنسان يشعر بشيء يزيد فيه عن الآخرين ويستعلي به عليهم، كأن يمتلك طاقة للحكم أو السلطة، أو أن يمتلك مالا يفوق الآخرين، أو أنه يمتلك علما أكثر من الناس وما شابه ذلك.
فمن الناس من يعتبر هذه الأمور نعمة عليه، فيعتبر المال نعمة والعلم نعمة والسلطة نعمة فيشكر الله عليها ولا يغتر بما لديه ولا يستعلي بما يملك على الآخرين الذين يملكون ما هو أقل منه.
وهناك من الناس وهم الأغلبية من يعتبر هذه الأمور تميز على الآخرين وفرصة للاستعلاء والتسلط على الآخرين ووسيلة لظلمهم بشتى الوسائل.
والصنف الآخر الذي يشعر بنقص في نفسه ويمتلك طاقة أدنى من غيره، كأن يكون في مرتبة اجتماعية متدنية أو يكون فقيرا لا يملك مالا وما شابه ذلك فهو أيضا على نحوين: قسم يعتبر ذلك امتحانا وابتلاء من الله وهؤلاء قلة من المؤمنين الصابرين فيشكرون الله على كل حال ويعتبرون كل وجودهم نعمة من خالقهم وبارئهم.
أما القسم الآخر وهم الأكثرية فيأخذون ذلك ذريعة لممارسة الظلم والطغيان على بني جلدتهم، فيفرغون عقدة النقص لديهم بظلم الآخرين والتعدي على حقوقهم ومصادرتها.
ويثير بعضهم إشكالا باعتباره الظلم طبيعة في النفس البشرية تولد مع الإنسان وأن الظلم فطري وهو من فطرة الإنسان، في حين أن الواقع بخلاف ذلك، والشواهد التاريخية الكثيرة خير شاهد على ذلك.
إنما ينشأ الظلم من المحيط والبيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الإنسان ويتربى، فكم من حاكم حكم بعدل رغم كل ما يملكه من قوة وجبروت، وكم من ثري أنفق ماله في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وكم من عالم كرس علمه في سبيل خدمة البشرية.
ولكن في المقابل فإن أكثر الناس يمارسون الظلم فيما لو حصلوا على الفرصة، وهذا راجع إلى سوء التربية والتنشئة وليس أمرا فطريا في بني البشر.
كما أن من يعاني من النقص والعوز والحرمان يحاول تارة أن يحسن وضعه بشكل طبيعي فيعمل ويكد حتى يحصل على المال والمنزلة والجاه والمنصب، وتارة أخرى تجد من يظلم الناس بحجة عقدة النقص التي يعاني منها ولا يحاول أن يغير وضعه بنفسه.
ومن أعظم مظاهر الظلم الإخراج من الأرض، وإن إخراج أي شخص من أرضه وتربته التي نشأ فيها وعليها ترعرع وكبر لهو من أصعب الأمور التي قد تمر على أي منا، فهذه الأرض اختلطت بكل جوارحه ولن ينسى ريحها وعطر تربتها ولو كانت أرضا جرداء قاحلة لا زرع فيها ولا ضرع، وحتى إن نقلته منها إلى جنة تجري من تحتها الأنهار، لن تفارق أرضه الأصلية مخيلته وفكره ما بقي الدهر.
كما أن الأرض الأصلية قد ألفها الإنسان وألف أهلها، ولو انتقل إلى مكان آخر فلن تكون كأرضه الأصلية، وسيشعر هناك بالوحدة والغربة، وسيستغرق الأمر فترة طويلة قبل أن يألف الجو الجديد.
وكان الكافرون يهددون الذين آمنوا بالطرد من ديارهم والإخراج من أراضيهم ظلما وعدوانا، فهم بذلك مارسوا الظلم والطغيان، والحقيقة إن الملك لله وحده، وإن الإخراج من الأرض قسرا لهو من أصعب الأمور وأشدها وقعا.
ومن الشواهد على ذلك نفي الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضوان الله عليه إلى الربذة، ذلك الصحابي الزاهد العابد الذي مات ولم يكن يملك قوت يومه، في حين أن بعض الصحابة الذين يعدهم بعضهم من الأجلاء يملك الملايين ويعيش حياة الترف والبذخ.
وكل ما يفعله هؤلاء الكافرون الظلمة هو بسبب إيمان من خالفهم، ولدينا اليوم من هذه النماذج من يروي لأبناء ملته عن المذاهب المخالفة له من الأكاذيب والخرافات ما لا يصدقه عقل ومع ذلك تصدقه عقول السذج البسطاء من الناس، ولكن ويح أولئك الذين يروجون لمثل تلك الخرافات، فإنهم بذلك يضلون عباد الله ويحرفونهم.
بل وإنهم يطلبون من أتباعهم الابتعاد عن قراءة كتب المذاهب الأخرى لكي لا تحرفهم، وهذا دليل ضعف وليس دليل قوة، فلو كانت حجتك مبينة فلن تخشى حجج الآخرين، لكن حجتك عقيمة ولذلك تمارس هذا اللون من الظلم في حقهم وتصادر حقهم في المعرفة بل وتمنع عنهم الهداية.