أسباب معاندة الحق – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ [الحجر: 14-15]
في زمنٍ تتعدد فيه الحقائق وتتزاحم الأصوات، يبقى العناد أحد أبرز الحواجز النفسية التي تمنع الإنسان من التسليم للحقيقة، حتى لو كانت ساطعة كالنهار. وقد جسّد القرآن الكريم هذا السلوك البشري بدقة لافتة، كما في قوله تعالى: (ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء…)، ليرسم لنا مشهداً متكرراً في كل زمان، حيث تُرفض الحجة لا لضعفها، بل لأن النفس ترفض الانقياد لما يخالف مصالحها أو يهدد أهواءها.
شرح وتحليل الآية:
تصور هذه الآية صنفاً من البشر بلغ بهم العناد أن لو أراهم الله أعظم معجزة، كأن يصعدوا فعليًا إلى السماء، لردّوها بالاتهام والسخرية. هذا ليس تشكيكًا منطقيًا، بل عنادٌ ينطلق من عمى البصيرة وتصلب القلوب، تمامًا كما قالوا: “إنما سُكّرت أبصارنا”، أي أُغلقت أو سُحرت.
والمقصود: أنهم حتى في مواجهة معجزات خارقة لا ينصاعون للحق، لأن قلوبهم مؤصدة، خاضعة لأهواء دنيوية ومصالح فئوية.
أنواع الناس أمام الحق:
الباحث عن الحقيقة: يسعى لفهم الدليل، ويقبل به متى وُضح له.
صاحب المصلحة: لا يقبل إلا ما يوافق هواه، ويرفض كل ما يهدد مكاسبه، ولو كان حقاً بيناً.
فالله تعالى يخفف عن نبيه الكريم قائلاً: إنك لست مسؤولاً عن تغيير القلوب المغلقة، فهؤلاء حتى لو أريتهم آيات من السماء، لقالوا: نحن مسحورون! فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
إسقاط تاريخي: من كفار مكة إلى كربلاء:
العناد أمام الحقيقة لم يتوقف عند كفار قريش. فها هو يتجلى في كربلاء، حين وقف الإمام الحسين عليه السلام يقدم الحجة تلو الأخرى، ويذكّرهم بمنزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله، ومع ذلك اختاروا قتله. لماذا؟
لأن حب المال والجاه طغى على عقولهم، وحب الدنيا غلب على وعيهم، فأصبحوا لا يبصرون.
مشاهد من الواقع الحديث:
نحن نرى اليوم من وصل إلى الفضاء واطّلع على بديع خلق الله، ولكنه رغم ذلك لا يؤمن. فالآيات الكونية مهما عظمت، لن تؤثر في من أُغلقت بصيرته. هذا ما تؤكده الآية: أن الخلل ليس في قلة المعجزات، بل في القلب الذي لا يريد أن يؤمن.
وفي الختام:
عناد النفس في مواجهة الحق قد يصل بصاحبه إلى هاوية لا رجعة منها. فالقرآن يوضح أن من لا يستجيب للحجة، لن تغيّره المعجزة. وإذا أردنا أن نكون من “الطيبين” لا “الخبيثين”، فعلينا أن نجعل عقولنا أداة للبحث لا للجدال، وقلوبنا مستعدة للانقياد إذا تبيّن لنا الحق. فطريق الهداية يبدأ بالصدق مع النفس.