حقيقة الأرض والماء – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى)
استعرضت الآية الكريمة نعم الله عز وجل على العباد وأرادت تذكيرنا بها، لأن الإنسان بطبعه إن كان غارقا في النعمة فهو ينساها ولا يشعر بوجودها إلا عند فقدها، فلو قلت لشخص مترفه تذوق مختلف صنوف الطعام إن طعاما ما لذيذ الطعم لاعتبره عاديا وليس مميزا، أما لو قلت نفس الشيء لشخص فقير لم يذق إلا الخبز لأخبرك بمدى لذة طعمه لأنه محروم من هذه النعم.
وذكرت الآية تشبيها بليغا حيث شبه الله لنا الأرض بالمهد، والمهد هو ما يوضع فيه الطفل ويهز، فما هو وجه الشبه بين الأرض والمهد في الآية المباركة؟
في الواقع فإن هذه الآية هي سبق علمي بامتياز، فهي تشبه الأرض بالمهد لكون الأرض تهتز وتتحرك وليست ثابتة كما كان عليه العلماء حتى قرون متأخرة قبل أن يكتشف غاليليو وغيره أن الأرض ليست ثابتة وليست مركز الكون بل هي تتحرك وتدور حول نفسها وحول الشمس التي هي مركز المجموعة الشمسية وتدور حولها مجموعة من الكواكب منها كوكب الأرض.
إن الكثيرين يعزون مثل هذه الاكتشافات العلمية إلى العلماء الذين ظهروا مؤخرا في أوروبا وأمريكا واكتشفوا العديد من قوانين الطبيعة ووضعوا العديد من النظريات العلمية التي لا يشك أحد في أنها قدمت خدمات جليلة للبشرية وكانت الأساس في تطور ونهضة العالم.
لكن الواقع هو أن القرآن الكريم ذكر ذلك قبلهم بقرون طويلة، وإن عدم الاهتداء إلى معنى مثل تلك الآيات ليس دليلا على أنها لم تكن موجودة لكن العقول هي القاصرة عن فهم مثل تلك الأشياء إلى أن جاء العلماء المتأخرون وبرهنوا على ذلك بالأدلة المادية والنظرية.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظمة القرآن الكريم ويثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنه ليس كتابا أرضيا وليس من وضع إنسان ومخلوق بل هو من عند الخالق البارئ عز وجل الذي هو أعلم بخلقه وبما خلق.
عندما يتحول العلم إلى حالة من العنصرية يفقد العلم قيمته ويفسد، فتجد هذا ينسب الفضل إليه في اكتشاف أو نظرية أو اختراع ما، وذلك ينسب إلى عرقه أمرا آخر.
ومن ذلك نسبتهم علم الاجتماع إلى ابن خلدون وأنه هو الرائد في هذا العلم وأول من وضع أسسه وأركانه، والحال أن ابن خلدون أخذ عن ابن مسكويه الشيء الكثير من هذا العلم، لكن المعروف والمشهور اليوم هو ابن خلدون ولا ذكر لابن مسكويه، وكل ذلك بدوافع عنصرية.
كما قالوا بأن جابر بن حيان أب الكيمياء وواضع علم الكيمياء تتلمذ على يد خالد بن يزيد بن معاوية ولم يكن تلميذا من تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، رغم أن كليهما من ذات العرق وذات القبيلة، لكن الدافع وراء ذلك حقد على أساس الدين والمذهب.
كما أن في الآية إشارة إلى أن إقامتنا ومكوثنا في هذه الأرض قليل وليس أبديا، فكما أن إقامة الطفل في المهد لا تتجاوز بضعة شهور كذلك الإنسان لا يمكث في هذه الأرض وهذه الحياة الدنيا إلا قليلا.
ويناقش بعض العلماء والمفسرين في حاجة الزرع إلى الماء لينمو، فقال قسم منهم ومنهم الفخر الرازي وعدد من أتباع مذهب الأشاعرة أن الماء ليس ضروريا للنبات حتى ينمو، بل إن قدرة الله هي ما تجعل النبت ينمو، وليس للماء أي دخل في نموه!
وهم ينطلقون من كون الأسباب الطبيعية غير مؤثرة في الوجود، ويعتبرون قدرة الله هي المؤثر الوحيد في الوجود ولا شيء سواها، في حين أن الله هو من أمرنا بالأخذ بالأسباب الطبيعية في عديد من الموارد، ومنها هذه الآية التي تشير صراحة إلى أن الماء هو السبب الطبيعي وراء نمو النبات. نعم لا شك أن قدرة الله هي ما تجعل النبات ينمو، لكن الله هو من أودع هذه الأسباب الطبيعية في الطبيعة فجعل للماء خاصية في جعل النبات ينمو ويزدهر، وليس فقط النبات بل كل شيء على وجه هذه البسيطة.
فلو لم يشرب الإنسان والحيوان الماء لمات عطشا، وهذا من الأسباب الطبيعية للوجود، وهذا لا يتنافى بحال من الأحوال مع قدرة الله المحيطة بكل شيء، ولا يتنافى مع أن الله يقول للشيء كن فيكون.
ولذلك أفرد الفقهاء مساحة واسعة من كتب الفقه للحديث عن الماء وملكية الماء وكيفية توزيع مياه الري والسقاية وأن الماء لا ملكية له ويجب على الجميع أن يستفيدوا منه دون تقييد.