غرور الحياة الدنيا – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ) “سورة الأنعام: 94”
مقدمة تفسيرية
القرآن الكريم يذكر في هذه الآية مشهدًا من مشاهد يوم القيامة، حيث يُخاطب الإنسان المتغرّ بماله ومنصبه وأتباعه، فيُذكَّر بأن كل ما جمعه في الدنيا سيتركه وراءه، وسيقف بين يدي خالقه وحيدًا كما خُلق أول مرة.
وقد جاءت الآية بصيغة الماضي رغم أن الواقعة مستقبلية، تأكيدًا على حتماً وقطعاً وقوعها، كما في قوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) “الزمر: 68” للدلالة على تحقق الوقوع الإلهي.
معنى “فُرَادَى” ودلالاتها
الانفراد في هذا السياق له أكثر من وجه:
وحدة المشهد: فكل إنسان يؤخذ إلى المحاكمة الإلهية وحيدًا، لا سند ولا عشيرة ولا مال.
التجرد من الزينة: يبعث الإنسان كما خُلق، لا ثياب ولا ذهب ولا مناصب ولا ألقاب.
هول الموقف: الوقوف الفردي أمام الخالق عزّ وجل يُبرز شدة الحساب وخطورة المآل.
وقد أشار بعض علماء النفس والقانون إلى أن العقاب الفردي أشد وقعًا من الجماعي، لما فيه من مواجهة مباشرة للمسؤولية دون التذرع بالمحيط أو الجماعة.
ترك الدنيا خلف الظهر
{وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ}
هذه الجملة تسحب البساط من تحت المتكبرين المتغطرسين، فتقول لهم:
ما كان بأيديكم ليس لكم، بل هو “خَوَّلْنَاكُمْ” أي أعطيناه إياكم على سبيل العارية المؤقتة.
اليوم تُتركون بلا مال ولا سلطان ولا ولد، وتُحاسبون وحدكم.
لا شُفعاء… ولا شركاء
(وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ)
تفند هذه الآية اعتقاد المشركين الذين زعموا أن الأصنام والملائكة والأنبياء سيكونون شفعاء لهم عند الله.
بل يُقال لهم: أين أولئك الذين عبدتموهم من دون الله؟ لم لا يخلصونكم الآن؟
وهذه رسالة قوية مفادها أن كل من اعتمد على غير الله خُذل، وأن الشركاء المزعومين يتبرأون من عُبّادهم يوم القيامة.
زهد أمير المؤمنين (عليه السلام)
قصة أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو يخصف نعله ويقول لابن عباس: “والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقًا أو أدفع باطلا” هي تجسيد عملي لهذا المعنى.
فهو لا يرى في الملك والسلطة قيمة ذاتية، بل يراها عبئًا لا يُقبل إلا إن كان فيها إقامة للحق.
وهذا الزهد الحقيقي نابع من علمه اليقيني بحقيقة الدنيا، وأن كل ما فيها زائل، ولا يبقى إلا العمل الخالص لوجه الله.
خاتمة
تذَكّر الإنسان لحقيقة “المجيء فرادى” يعصمه من الغرور والركون إلى الدنيا، ويدفعه إلى إعداد الجواب ليوم الوقوف. فكم من متكبر ظن أن منصبه سيشفع له، وكم من غني ظن أن ماله سيصنع له مجدًا أبديًا، فإذا به يأتي يوم الحساب لا يحمل إلا ما قدّم من عمل صالح.
وصدق الله إذ يقول: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) “الشعراء: 88-89”