موقف المنافقين من آيات الله – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ٱئْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنْ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلْقَآىِٕ نَفْسِىٓ ۚ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ﴾ “يونس: 15”
الخلفية الاجتماعية لنزول الآية
عندما استقرّت دعائم الدولة الإسلامية في المدينة المنوّرة، وبدأت دعوة الإسلام تتسع، دخل في الإسلام كثير من الناس، لكن لا على مستوى واحد من الإيمان:
فئة أولى: دخلت عن قناعة راسخة، وارتبطت بالدين ارتباطًا نابعًا من الإيمان بالله ورسوله.
فئة ثانية: دخلت الإسلام عن نفاق أو مصلحة، سواء طمعًا في مكاسب سياسية أو خشيةً من نبذٍ اجتماعي، فكانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الرفض.
تناقض المصلحة مع النص
المنافقون لم يحتملوا أن تكون تعاليم الإسلام عامةً وشاملة، تصيب مصالحهم في عمقها:
تحريم الربا: هدد أرباح التجّار المتنفذين.
مبدأ المساواة: شكَّل صدمة لذهنية المجتمع الجاهلي القائم على التفاضل الطبقي، إذ لم يتقبل بعضهم أن يكون عبدٌ أو مولى شريكًا له في التشريع أو الميراث.
إلغاء الامتيازات الطبقية: لم يرقَ ذلك لأصحاب النفوذ الذين رأوا أنفسهم فوق غيرهم في المنزلة والكرامة.
فكانت النتيجة أن طالبوا النبي ﷺ بتبديل هذا القرآن أو استبداله بغيره:
“ائتِ بقرآنٍ غير هذا أو بدّله…”
النبي ودوره التبليغي
تأتي الآية بردٍّ حاسم على هذا الطلب العبثي: “قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي…”
وهنا يظهر أصلٌ مهم في العقيدة الإسلامية:
النبي ﷺ ليس مشرِّعًا من ذاته، بل هو متلقٍ للوحي ومبلّغ لما يؤمر به، ولذلك فإن جميع الأحكام التي جاء بها ليست اجتهادية ولا شخصية.
تأكيد هذا المعنى ورد مرارًا في القرآن: “وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”
وهذا ينفي القول الذي تبنّته بعض المدارس لاحقًا بأن النبي كان يجتهد ويخطئ، بل الثابت في منطق القرآن أن النبي كان موصولًا بالوحي في أقواله وأفعاله.
الرسائل المستفادة من الآية
ثبات النص القرآني: لا يخضع لأهواء الناس، سواء أكانوا مؤمنين أم منافقين.
موقف الدين من المصالح الخاصة: التشريع الإلهي لا يراعي مصلحة فرد أو جماعة، بل يُراعي مصلحة الإنسان ككل وفق حكمة مطلقة.
القرآن ليس منتجًا بشريًا: لم يُصَغ ليُرضي أحدًا، بل نزل من لدن حكيم عليم، ومن الطبيعي أن يتعارض مع مصالح الظالمين والفاسدين.
النبوة تبليغ لا تأليف: وهذه نقطة فاصلة في فهم الإسلام، فالنبي ﷺ لا يزيد ولا ينقص ولا يبدّل، بل هو عبدٌ طائعٌ لوحي ربّه.
خاتمة
الآية الكريمة ترسم خطًا واضحًا بين الوحي الإلهي والهوى البشري، وتكشف عن جوهر الدعوة المحمدية: أنها رسالة إصلاح، لا تتلون بالمصالح، ولا تستجيب للضغوط، ولا تُدار وفق ميزان السياسة أو الاقتصاد، بل تبقى ثابتة كالحق، ناصعة كالنور، تأخذ بيد الإنسان نحو كماله رغم أنف المتضررين منها.