قناة المعارف الفضائية | سراج العلم والفضيلة
فهرس: المنبر العميد
آخر برامج من: الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (ره)
آخر برامج في قناة المعارف الفضائية

الأمانة والعدالة – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله

قال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ “آل عمران: 75”

تشير هذه الآية الكريمة إلى سلوكيات متباينة داخل طائفة واحدة، وهي طائفة أهل الكتاب. فبينهم من هو أمين إلى درجة أن يُؤتمن على قنطار من الذهب فيرده بلا تردد، ومنهم من يخون حتى في دينار صغير، ولا يؤديه إلا تحت الضغط والمطالبة المتكررة. وهذه الواقعة في ظاهرها اقتصادية، لكنها في حقيقتها تقدم رؤية قرآنية أعمق: الرؤية المنصفة للآخر.

 

العدالة في التوصيف

القرآن الكريم لم يصف أهل الكتاب بالعدالة بمعناها الإسلامي الذي يشترط الإيمان والالتزام بالشريعة، لكنه لم يغفل الصفات الإنسانية الإيجابية التي قد يتحلون بها. وهذا يدعونا إلى أن نكون منصفين في توصيف الآخرين، حتى لو كانوا من غير المسلمين. فكونهم على غير الإسلام لا يبرر تجاهل فضائلهم أو تزوير أخلاقهم.

هذه الرؤية تشكل قاعدة مهمة في التعامل الإنساني: العدل لا يتجزأ، والانصاف لا يُلغى بمجرد الاختلاف في الدين أو المذهب.

 

الأمانة معيار إيماني

الآية الكريمة سلطت الضوء على سلوك محدد: الأمانة، فجعلته مقياسًا يعكس طبيعة الإنسان لا انتماءه الديني. وهذا الاتساق مع التوصيف النبوي نجده في الحديث الشريف:

(آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).

فالأمانة ليست مجرد سلوك اجتماعي، بل هي مرآة الإيمان، ومقياس أخلاقي يحدد درجة الانتماء الحقيقي للدين. والمجتمعات لا تنهض بالشعارات، بل بثبات القيم، وفي مقدمتها الأمانة.

 

العدالة الداخلية أولى من الإنصاف الخارجي

إذا كان الإسلام يأمر المسلم بأن يكون منصفًا في تعامله حتى مع غير المسلمين، فما هو المأمول منه تجاه إخوانه في العقيدة والدين؟

إن الانتماء إلى أمة واحدة يفترض وجود روابط تتجاوز حدود المعاملة العادلة، إلى التراحم والتكافل ووحدة المصير.

قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾

فالخطاب هنا لا يُراد به توصيف واقع، بل تحديد هدف، لأن الواقع يشهد بانقسام وتمزق. وما لم تتحول هذه الأمة إلى جماعة متماسكة بقيمها وسلوكها قبل شعاراتها، فإنها ستبقى خارج الفعل الحضاري الحقيقي.

 

دلالة (إلا ما دمت عليه قائمًا)

جاء التعبير “إلا ما دمت عليه قائمًا” ليلفت النظر إلى مسألة المطالبة بالحق. فبعض الناس لا يرد الحقوق لا لعجز أو إعسار، بل لميل نفسي إلى المماطلة أو الاستغلال. والآية تشير إلى أن من حق الإنسان أن يطالب بحقه، بل يجب عليه ذلك، حتى لا يضيع الحق، ولا تُشجع النفس المعتدية على التمادي.

والملفت أن القرآن لم يجعل هذه المطالبة أمرًا معيبًا، بل أقرها بصيغة تقريرية. فهذا يعلمنا أن الصبر لا يعني التنازل عن الحقوق، وأن التساهل في المطالبة قد يكون شكلًا من أشكال الإعانة على الإثم والعدوان.

 

خلاصة

الآية الكريمة تقدم أكثر من مجرد توصيف لحالة أخلاقية داخل أهل الكتاب. إنها تضع يد المسلم على معايير إنسانية وقيمية يمكن أن توجد عند الآخرين، وتطالبه بأن يكون منصفًا، لا في توصيفهم فقط، بل في بناء علاقاته مع مجتمعه. كما تؤكد على مركزية الأمانة كركيزة في بناء الفرد والمجتمع، وعلى ضرورة المطالبة بالحقوق للحفاظ على توازن العلاقات، وضبط السلوكيات في المعاملات.

مواضيع مشابهة

ليتفقهوا في الدين- آيات الأحكام- 195- الأمانة في الإسلام

حمل الأمانة