المحكم والمتشابه في القرآن – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ…﴾ “سورة آل عمران: 7”
حين نأتي إلى كتاب الله العزيز، نحن لا نقف عند ظاهر الآيات، وإنما ننفذ إلى ما وراء الحروف، لأن هذا الكتاب نزل من عند من لا تحده حدود، وكل كلمة فيه موضوعة في موضعها، وإذا اختل الفهم ضلّ التأويل وضلّ المتأولون. والآية الكريمة هذه من الآيات التي يحتاج فيها العقل إلى البصيرة، لا إلى الحفظ فقط.
شرح الآية الكريمة:
القرآن الكريم يُقسّم نفسه هنا إلى آيات محكمات وآيات متشابهات.
المحكمات: هي الآيات الواضحة البيّنة، التي لا لبس فيها.
هن أمّ الكتاب، أي الأصل الذي تُردّ إليه باقي المعاني.
مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، أو قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.
المتشابهات: هي الآيات التي تحتاج إلى تأويل، أي إلى فهم في ظل المحكم.
قد يكون فيها رمز، مجاز، استعارة، أو وجهٌ غير ظاهر.
الذين في قلوبهم زيغ: هؤلاء ليس قصدهم الوصول إلى الحقيقة.
وإنما يُريدون أن يُحدثوا فتنة بين المؤمنين، ويُلبسوا على الناس دينهم.
يتّبعون المتشابه ويتركون المحكم، حتى يصنعوا نظرية باطلة يبنونها على أساس غير سليم.
وهذه الفئة التي تتبع المتشابهات هم في كل عصر، يُلبسون على الناس بظاهر آية، ويضربونها عن المحكم، حتى يقولوا: إن القرآن فيه تناقض! أو حتى يبرّروا انحرافًا عقائديًّا أو سياسيًّا.
وقفة تأملية بالآية الكريمة:
من خصائص هذه الآية أنها تُرسي منهجًا في فهم القرآن. وهي تُعلِّمنا أن لا نقرأ الآيات بعزل بعضها عن بعض، فالمتشابه لا يُفهم إلا بردّه إلى المحكم.
إذا أردت أن تفهم قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، لا تقف عندها وحدها، بل ارجع إلى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، فتعرف أن “الاستواء” ليس كالمعنى الذي يأتي لأذهان الناس بل الرحمن على العرش استولى وهيمن وسيطر عليه.
فهم المتشابه من دون المحكم يؤدي إلى التشبيه، إلى التجسيم، إلى الانحراف.
تأويل القرآن بين الهدى والزيغ:
الآية تشير إلى أن في الناس من يريد التأويل لا للوصول إلى الحق، بل ليُلبّس على الناس.
من يقرأ قوله: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾، دون أن يردّها إلى المحكم من الآيات التي تؤكد حرية الإنسان واختياره، سيخرج منها بفكرة الجبر، ويُحمِّل القرآن ما لا يحتمل.
لكن، القرآن لا يُعارض نفسه، ولا تتضارب آياته، بل من لم يُحكِم أدوات الفهم هو من يقع في الزيغ.
من الذي يعرف التأويل؟
في تتمة الآية: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾
هنا نحتاج وقفة: هل “الراسخون في العلم” يعلمون التأويل؟
الجواب: نعم، إذا قرأنا الآية بدون وقف:
(وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به)…
والراسخون في العلم عندنا – في مدرسة أهل البيت – هم محمد وآل محمد عليهم السلام، الذين أُوتوا علم الكتاب. وهم الذين يعرفون ما خفي من القرآن، وما تبيّن وما تشابه، فهم عدل القرآن وهم بابه.
خاتمة:
القرآن لا يُفسَّر بالرأي، ولا يُؤخذ على المزاج. لا تقرأ الآية وتستعجل بالحكم. ابدأ بالمحكم، وأعرض عليه المتشابه، واسأل الراسخين في العلم، وإلا كنت من الذين “في قلوبهم زيغ”.
القرآن لا يُعطيك إلا بقدر إخلاصك في الطلب، فإذا أردت أن تفهم كتاب الله، فابدأ بقلبٍ سليم، وعقلٍ منصف، وولاءٍ للراسخين في العلم.