قناة المعارف الفضائية | سراج العلم والفضيلة
فهرس: المنبر العميد
آخر برامج من: الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (ره)
آخر برامج في قناة المعارف الفضائية

الافتراء على الله – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ…﴾ (الأنعام: 93)

حين يريد القرآن أن يفضح الظلم في أقبح صوره، لا يبدأ بالظلم الاجتماعي، ولا حتى السياسي، بل يتجه مباشرة إلى أشد أنواع الظلم: الافتراء على الله.

لأن الافتراء على الله، إنما هو خلط الحق بالباطل، وهدم البناء العقدي من أساسه، وفتح باب الضلال على مصراعيه.

أسباب النزول:

ورد في سبب نزول هذه الآية أنَّها نزلت في ثلاثة أصناف من الكذابين الذين تصدّوا للوحي زورًا وافتراءً:

مسيلمة الكذاب: ادعى النبوة، وقال: “أُوحي إليّ كما أوحي إلى محمد”. كان يقول: “سأنزل مثل ما أنزل الله”، فواجهه الوحي بتكذيب مباشر في هذه الآية.

عبد الله بن سعد بن أبي سرح: كان من كتبة الوحي، ثم ارتد وقال: “أنا أقول مثل ما يقول محمد”، فادعى أن وحيه من عنده، ولم يكن كذلك، فشمله النص.

النضر بن الحارث: كان يأتي بقصص فارس والروم ويقول: “أنا أقول مثل ما يقول محمد”. فأنزل الله هذه الآية ردًا عليه.

فنزلت هذه الآية للرد على هؤلاء وأمثالهم ممن تجرؤوا على القول بأنهم قادرون على التشريع أو الوحي، أو نسبوا لأنفسهم منزلة الرسالة والنبوة كذبًا وزورًا.

 

تفسير الآية:

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ الاستفهام هنا ليس طلبًا للجواب، بل توبيخي تقريري، بمعنى: لا أحد أظلم.

﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي نسب إلى الله ما لم يقله، إما بتحريف الشريعة أو اختلاق عقائد. وهذا يشمل الكذابين الذين ادعوا النبوة بلا وحي، أو أضافوا تشريعات باسم الدين. فالأمر ليس مجرد “كذبة”، بل هي جريمة عقدية تهدم الدين وتضل الأمة.

﴿أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ هذا النص يضرب الذين لبسوا لباس الدين لغايات شخصية. يدّعي الوحي ليستدرج الناس باسمه، وهنا الخطر الأعظم، لأن صاحب هذا الادعاء يُنصّب نفسه خصمًا للحق.

﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ أي من تحدى القرآن، وقال: أستطيع أن آتي بمثله. وهذا التحدي لم يكن مجرد كلام، بل عبر عنه بعض الطغاة في عصر الرسالة مثل مسيلمة وسجاح، وزعماء قريش، ممن حاولوا تقليد الوحي دون فهم أو روح.

 

مصير من يفتري على الله في يوم القيامة:

﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ القرآن يفتح نافذة على لحظة مفصلية، لحظة الغرغرة، حين يحتضر الظالم. “غمرة” تعني الشدّة والتخبط، وكأنهم يغرقون في دوامة لا خلاص منها.

﴿وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي يمدّون أيديهم بالعذاب والضرب كما في آيات أخرى، ﴿اضْرِبُواْ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾. وهنا الخطاب لا يحمل لطفًا، بل وعيدًا رهيبًا.

﴿أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمْ﴾ صيغة أمر موجهة للظالم نفسه. النفس تكره الخروج من الدنيا، تتشبث بالحياة، لكن يُجبر على مفارقتها، مطرودًا لا مختارًا.

﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ الهون هو العذاب المقترن بالإذلال. وليس العذاب الجسدي فقط، بل الشعور بأن كذبهم وتكبرهم بات عليهم خزًيا في دار الحق.

﴿بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ السبب بيّن: كانوا يتعمدون الكذب على الله، ويترفعون عن الانقياد لآياته. ومن تكبّر على الحق، أسقطه الله في مذلة الباطل.

 

دروس وعبر:

أعظم الظلم هو تحريف الدين لا ظلم الناس فقط، لأنه يضل أجيالًا بكاملها.

عند الموت تتلاشى الأقنعة، وتُكشف حقيقة الإنسان؛ فهنا تظهر العدالة الإلهية على حقيقتها.

الخطر الأكبر ليس فقط في الضلال، بل في تزيينه للناس وترويجه على أنه دين الله.

الاستكبار عن آيات الله هو الباب الذي يفتح كل ضلال؛ من أعرض عن الحق كبرياءً، فهو أولى بالخذلان.

 

خلاصة:

القرآن لا يمرّ مرورًا عابرًا على الكذب على الله، بل يسجّله كقمة في الظلم. والموت ليس نهاية حياة فقط، بل هو افتتاح لمحكمة لا تعرف التساهل، والذين كذبوا على الله، ستأتي لحظة تنكشف فيها الأكاذيب، وتكون النهاية مؤلمة ومهينة.

مواضيع مشابهة

قضايا وهموم – 33 – الكذب وآثاره على المجتمع

آفات الكذب في الكتاب والسنة