قناة المعارف الفضائية | سراج العلم والفضيلة
فهرس: المنبر العميد
آخر برامج من: الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (ره)
آخر برامج في قناة المعارف الفضائية

ولقد جئتمونا فرادى – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله

في زمن تتسارع فيه المغريات، ويتسابق الناس على جمع المال وبناء العلاقات، تنسى النفوس الغاية، وتغفل عن المصير المحتوم. تأتي الآيات القرآنية لتعيد ترتيب أولويات الإنسان، وتوقظه من سباته الروحي، ومن تلك الآيات المؤثرة ما ورد في سورة الأنعام:

﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ…﴾

آية تهزّ الكيان، وتضع الإنسان وجهًا لوجه أمام حقيقته العارية يوم القيامة. في هذا المقال، نتأمل معًا في معاني هذه الآية، ونتعرف على أسباب نزولها، ودروسها البليغة في العقيدة والسلوك.

أسباب النزول:

ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في مشركي مكة الذين كانوا يتفاخرون بأموالهم وأنسابهم، ويعبدون الأصنام، ويزعمون أن شفاعتهم ستنفعهم عند الله. فجاءت الآية لتفند هذا الادعاء، وتؤكد أن الشفاعة بيد الله وحده، وأن الإنسان يُحاسب وحده على أعماله، لا على علاقاته أو مظاهر القوة في الدنيا.

 

شرح الآية الكريمة:

﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾

القرآن يُصوّر لحظة مثيرة ومهيبة من مشهد يوم القيامة: الإنسان يُبعث كما خُلق، بلا مال، بلا جاه، بلا معين. كما خُلق أول مرة، يُبعث مرة أخرى، ولكن هذه المرة للحساب لا للاختبار.

﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ﴾

الذي ظن الإنسان أنه ملكه: البيت، السيارة، الوظيفة، العائلة، ذهب كله، تركه وراء ظهره ولم يأخذ منه شيئًا. لم يبقَ معه إلا عمله: صالحًا أو طالحًا.

﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء﴾

هذه الآية تكشف زيف الشرك والاعتماد على الشفعاء من دون الله. أين أولئك الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لله؟ أين الذين توسلتم بهم ظنًا أنهم يُغنون عنكم من الله شيئًا؟

﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾

كل العلاقات والمصالح والروابط التي بنيتموها في الدنيا تقطعت. وكل الأوهام التي عشتم فيها تلاشت. لم يبقَ إلا الحقيقة التي طالما غفلتم عنها.

 

الدروس والعبر المستفادة:

الحساب فردي لا جماعي: كل إنسان سيُحاسب على ما قدّم، ولن تنفعه جماعته أو ماله.

الغرور بالدنيا وهم: ما تملكه اليوم ستتركه غدًا، فارفق بنفسك ولا تجعل الدنيا تغرك.

زيف الشرك والاعتماد على غير الله: التوسل بمن لا يملكون ضرًّا ولا نفعًا لا يجدي نفعًا في الموقف الحق.

فارق بين الزينة والزاد: المال والأولاد زينة، لكن الزاد الحقيقي هو العمل الصالح، والتقوى.

القيامة بداية وليس نهاية: إنها بداية الحياة الحقيقية، فلا تجعل كل جهدك للدنيا التي ستتركها وراء ظهرك.

 

الخاتمة:

هذه الآية العظيمة من سورة الأنعام تُعيد توجيه البوصلة، وتذكّرنا أن الدنيا ممر، لا مقر. وأن الإنسان، مهما علا شأنه في الدنيا، سيقف يومًا ما أمام ربه فردًا، مجردًا من كل ما امتلكه. فهل أعددنا لذلك اليوم؟ وهل راجعنا أنفسنا في ما نظنه ملكًا لنا، وفيمن نعلّق عليهم آمالنا؟