تأملات في سورة الهمزة – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾
في القرآن الكريم آيات تنزل كالصواعق على رؤوس الظالمين، توقظ الغافل، وتُوقِف المتبجح عند حدّه، وتُظهر لنا مدى قُبح السلوك حين يتزين بالكِبر، ويختبئ خلف المال واللسان السليط. ومن تلك الآيات الجليلة سورة “الهمزة”، التي تبدأ بوعيد شديد: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾، فهي ليست فقط إدانة لسلوك فردي، بل إنذار لمجتمع قد يُعلي من شأن المال والازدراء بالناس.
أسباب نزول سورة الهمزة:
نقل المفسرون أن هذه السورة نزلت في الوليد بن المغيرة، أحد زعماء قريش الكبار، وكان شديد الغطرسة والتعالي. اشتهر بالسخرية من المؤمنين، وكان يهمزهم في حضورهم، ويغتابهم في غيابهم. جمع بين لؤم اللسان وكِبر النفس، وكان يفتخر بثروته ويحسب أنه خالد بها.
وقد روى الواقدي وغيره أن الوليد كان يقول: “لو كان ما يقول محمد حقًا، لكنت أولى بالنبوة، فأنا أكثر مالًا وأعزّ نفرًا”. وهذا من أعظم صور الاغترار بالمال والجاه.
لكن العبرة لا تنحصر في شخص، فكما قال بعض أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والسورة تمثل حكمًا عامًا على كل من اتصف بهذه الصفات، في أي زمان ومكان.
شرح الآيات:
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾
الويل: كلمة عذاب وهلاك، وقد فُسرت بأنه وادٍ في جهنم، يسيل صديد أهل النار، أو أنه دعاء بالهلاك.
الهمزة: الذي يعيب الناس بالإشارة والإيماء والسخرية في وجوههم.
اللمزة: الذي يغتابهم في غيابهم، يطعن في أعراضهم بكلام خفي لئيم.
فالآية تبدأ بإدانة لمن حوّل لسانه وبدنه إلى أداة لامتهان كرامات الناس. ولسان السوء قد يكون أخطر من السيف، لأنه يطعن النفوس ويشوّه السمعة.
﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾
هنا ينتقل القرآن من وصف السلوك إلى بيان الدافع له. فبعض الناس يظن أن المال يمنحه الحق في ازدراء الآخرين. هو يجمعه لا ليؤدي زكاته، بل ليُحصيه، يعدّه ويستكثره، ويتباهى به، كما لو أن الأرقام ترفع المقام عند الله.
الآية تُظهر الهوس بالمال كمشكلة نفسية، لا اقتصادية فقط.
﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾
هذه جملة تصف عمق الغرور. المال هنا ليس وسيلة للعيش، بل صار عنده وكأنه جواز عبور إلى الخلود. نسي الموت، وغفل عن القبر، وظن أن الأرصدة تمنحه الأمان الأبدي.
كم من الناس اليوم يعيش هذا الوهم؟! يتصور أنه بمنأى عن المرض، أو الفقر، أو المساءلة، لأنه يملك مالًا أو سلطة!
﴿كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾
كلا: ردع وزجر، أي ليس الأمر كما يظن!
لينبذنّ: يُلقى طرحًا بقوة، كما يُرمى الشيء المهين غير المرغوب فيه.
الحُطَمة: من الحطم، أي التكسير. وهي اسم من أسماء جهنم، لأنها تحطّم أجساد العصاة كما يُحطم الزجاج.
كأن القرآن يقول: أنت جمعت مالك ليحميك، لكنك ستُلقى في نار تحطم كل شيء، حتى ما ظننت أنه يحميك!
دروس وعبر تربوية من سورة الهمزة:
أخطر ما يصيب النفس: الغرور بالمال، فالمال قد يكون نعمة إذا وُظف في طاعة، لكنه قد يتحول إلى نقمة إذا أورث كِبرًا واحتقارًا للناس.
السخرية لا تعني أن صاحبها ذا طرفة، بل تعني أنه ساقط أخلاقياً، والهمز واللمز لا يعبّران عن ذكاء، بل عن نفس ضعيفة تمارس التنمر لتغطي عجزها الداخلي.
من علامات فساد القلب: شهوة العدّ والتفاخر، فعندما يتحول المال من وسيلة للعيش إلى غاية لذاتها، يصبح جمعه مرضًا، والاحتفاظ به عبادة مزيفة.
الدنيا لا تُخلد أحدًا، فالواقع أن المال، الجاه، السلطة… كلها تذوب أمام الموت. ولن يبقى إلا عمل الإنسان وصِدق قلبه.
قيمة الإنسان ليست بما يملك، بل بما يُعطي، فمن رأى في ماله وسيلة للكبر سقط، ومن جعله وسيلة للعطاء ارتفع.
وفي الختام نقول:
سورة الهمزة ليست فقط إنذارًا للوليد بن المغيرة، بل صفعة توقظ كل من توهّم الخلود في زخارف الدنيا. هي دعوة للتواضع، ورفض الهمز واللمز، وتنقية القلب من التعالي، فالسعيد من وعى هذه الرسائل، ونظر لنفسه بعين الناقد، لا بعين المتفاخر.