قناة المعارف الفضائية | سراج العلم والفضيلة
فهرس: المنبر العميد
آخر برامج من: الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (ره)
آخر برامج في قناة المعارف الفضائية

معيار كرامة الإنسان – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾

حين أراد الله أن يُوجِد الإنسان، لم يخلقه من فراغ، ولم يوجده عبثًا. خلقه بعلمٍ، وبإرادةٍ، وبحكمةٍ.

فجعل الذكر والأنثى أساس الوجود الإنساني، وربط بينهما بأقدس رابطة، رابطة الزواج.

وهذا الزواج لم يكن فقط لأجل المتعة أو البقاء، بل ليُبنى عليه المجتمع، وتقوم عليه حياة الناس، ويستمر به العمران.

فكما أن لكل مخلوق علة، فإن الزواج علة لوجود المجتمعات، وسبب في التكوين البشري. ولذا قال تعالى:

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ (الروم: 21)، ليشير إلى أن أصل الرجل والمرأة واحد. لا تفاضل بين طينتين، وإنما التفاضل عند الله بالتقوى.

 

أسباب نزول الآية:

ورد في أسباب نزول الآية أن ثابت بن قيس دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله في حال ازدحام الناس، وكان صوته جهوريًا، فقال لرجل من بني تميم: اجلس، يا ابن فلانة! ـ وكان في كلامه شيء من التعيير بنسب الأم ـ. فغضب الرجل، وقال: أتعيرني بأمي؟!

فنزلت هذه الآية الكريمة تؤدب الناس وتضع مقياس الكرامة الحقيقي، وتُبطِل كل مقاييس الجاهلية من نسب، وعِرق، وقبيلة.

 

شرح وتفسير الآية:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ الخطاب هنا للناس جميعًا، بلا تمييز بين مؤمن وكافر، عربي وعجمي، رجل وامرأة. إنه خطاب عام يخاطب الإنسانية ككيان واحد.

وفي ذلك توحيد للمصدر الذي خرج منه الإنسان، وتوحيد للرسالة التي تخاطبه.

﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى﴾ ليس منكم أحد خرج من غير هذه السنة الإلهية: رجل وامرأة.

فالخلق قائم على التكامل لا التصارع، وعلى الاشتراك لا الانقسام.

وفي هذا نفي واضح لأوهام التفاخر بالنسب، والاحتقار للمرأة أو للضعيف.

أصلكم جميعًا من “نفس واحدة” (كما قال تعالى في موضع آخر)، ثم فُرعت إلى ذكر وأنثى، لتستمر الحياة.

﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾ بعد أصل الخلق، يُشير القرآن إلى تنوع الانتماءات البشرية: شعوب وقبائل.

فـ”الشعب” يشير إلى الانتماء العام مثل الفارسي، الرومي، العربي…

و”القبيلة” تخص الانتماء الأدنى، كقريش، وتميم، وهذيل…

﴿لِتَعَارَفُوا﴾ الغاية من هذا التنوع ليست للتنافر، بل للتعارف.

لتتبادلوا الخبرات، ولتتعلموا من بعض، ولتكتشفوا قيمة التنوع في الألسن والثقافات.

كأن الآية تقول: اختلاف ألوانكم وألسنتكم ليس للتمييز العنصري، بل ليكمل بعضكم بعضًا.

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ وهنا يضع القرآن ميزانًا إلهيًا للكرامة: لا نسب، لا قبيلة، لا مال، لا سلطة… الميزان هو التقوى.

وهذا ما يجعل العبد الأسود التقيّ أرفع عند الله من سيد قريش الجاهلي.

التقوى ليست لباسًا، بل موقف.

هي أن تراقب الله في الخلوات، وتحفظ لسانك في الشدائد، وتقول الحق ولو على نفسك.

﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ لأن الناس قد يُخفون أعمالهم أو يتظاهرون بالتقوى، يختم الله الآية بصفاته:هو عليم بالنيات، خبير بالسرائر، لا تغرّه المظاهر، ولا يُخدع بالخطاب المزيف.

 

دروس وعبر من هذه الآية الكريمة:

لا تفاضل بين البشر إلا بالتقوى، سواء كنت عربيًا أو أعجميًا، غنيًا أو فقيرًا، فإن المقياس الإلهي واحد.

الزواج أساس الوجود الإنساني، من ذكر وأنثى بدأ كل شيء، فلا يحق لأحد أن ينقص من شأن المرأة أو يفاخر بجنسه.

التنوع البشري نعمة لا نقمة، الشعوب والقبائل ليست مدعاة للتعصب، بل للتعارف والتكامل الحضاري.

خطورة اللسان في التعيير، كما في سبب النزول، فإن كلمة واحدة قد تهوي بصاحبها إلى النار. فاحذر التفاخر بالنسب، أو السخرية من الأنساب.

الله لا يُخدع بالمظاهر، لا تنفعك الألقاب ولا الشكل، ما ينفعك هو القلب النقي والعمل الصالح.

 

وختام الكلام:

بهذه الآية، يُقيم القرآن ميزانًا عادلًا بين الناس، ويهدم كل معايير الجاهلية.

ويُعلن أن الإنسان إنسان بعمله، لا بنسبه. وأن الكرامة الحقيقية لا يمنحها الناس، بل يمنحها الله لمن اتقاه.

فلا ترفعك القبيلة إن خذلتك التقوى، ولا يحط من قدرك الفقر إن عَمَر قلبك الإيمان.

مواضيع مشابهة

هدىً للمتقين – 7 – آثار تقوى الله عز وجل

أحاديث في الطاعة والتقوى والورع ومدح المتّقين